د. صالح الفهدي
ما فائدة التعليم إن لم يصنع ويصقل المهارات للمتعلم؟! يتخرَّج طالبٌ بعد اثني عشر عاماً فلا يجيد كتابة رسالة! ولا يُحسن جرَّةَ قلم! أيُّ وقت ضائع في حصص التعبير ومطالعة النصوص والنحو والإعراب والتطبيل لعروض الشعر طوال هذه السنين؟! لا يجيد النطق بسلاسة باللغات التي درسها وأولها لغته الأم.. فماذا فعلت له حصص اللغات لتقويم لسانه، وفصاحة بيانه؟ لا يفقه أساسيات دينه، فماذا فعلت له حصص التربية الإسلامية؟! لا يجيد فهم التاريخ، فماذا فعلت له حصص التاريخ؟! ثم هو لا يمتلك مهارات حل المشكلات، وريادة الأعمال، واتخاذ القرارات وغير ذلك، فماذا فعل التعليم له إذن؟!
التعليم لا يُقاس بالمؤهَّل وإنَّما بمضامين هذا المؤهل، والدرجات –وإن قِيل لا بديل عنها- فهي ليست مؤشراً على امتلاك المهارات وإنَّما على مقدرة الطالب على الحفظ، وحشو دماغه بالبيانات والتعريفات والنظريات والمعادلات وغير ذلك! يقول فيلسوف التربية الأمريكي جون ديوي: العلم وسيلة لا غاية، وهو كلام يُترجمُ ما يقوله علماء التربية أن التلميذ فرنٌ يُحمى لا وعاءٌ يملأ.
تشتكي المؤسسات بأنَّ صاحب المؤهل لا يملكُ المهارات الأساسية للعمل، ولا يمتلك القدرات الشخصية التي تُؤهله للتعامل مع ظروف العمل، وطرق إنجازه، والتعامل مع بقية الموظفين على اختلاف طباعهم وثقافتهم وسبب ذلك أن التعليم قد اهتم بحشوه بالمعلومات والبيانات ولم يهتم بامتلاكه للمهارات والقدرات التي يتسلَّح بها في مجال وظيفته.
بعض الدول المتقدِّمة في التعليم انتبهت إلى تزويد المتعلم بالمهارات لا بالمحفوظات ومنها فنلندا، وبعضها الآخر قد انتبه إلى أنَّ المؤهلات وحدها لا تعني استقطاب الشخص الصحيح للوظيفة، وإنما تعني حالين: إما ما تتضمنه هذه المؤهلات من مهارات، أو المهارات التي لا تدعمها مؤهلات بحيث تتيح لها فرصة كي تبرز نفسها دون وجود حاجز يحول بينها وبين إظهارها في مجال الوظيفة.
الرئيس الأمريكي وقَّع أمراً تنفيذياً للمُؤسسات الفيدرالية بالتركيز على المهارات بدل الشهادات الجامعية في اختيار الموظفين الفدراليين، ولا يعني ذلك –كما تشرح الرئيسة الشريكة في المجلس الاستشاري لسياسة القوى العاملة الأمريكية ومستشارة الرئيس- إلغاء شروط الحصول على الدرجة من أجل التوظيف، ولكنه بدلاً من ذلك يشجع على إعطاء الأولوية لمهارات الوظيفة، مما يجعل الدرجة العلمية أو الشهادة أقل أهمية.
وتضيف إيفانكا ترامب أنَّها "قد أوصت الحكومة الفيدرالية -التي توظف أكثر من مليوني عامل مدني- بإعادة وضع استراتيجية توظيف" معلِّلةً ذلك بالقول:"نحن نشجع أصحاب العمل في كل مكان لمراجعة ممارسات التوظيف لديهم، والتفكير النقدي في كيفية دعم المبادرات الخاصة بتنويع وتعزيز القوى العاملة لديهم"، وتضيف: "نحن نقوم بتحديث التوظيف الفيدرالي، للعثور على مرشحين يتمتعون بالكفاءات والمعرفة ذات الصلة، بدلاً من مجرد التوظيف بناء على الشهادة" معتقدةً أن هذا التوجُّه "سيوسِّع القوى العاملة ويحسِّنها، حيث ستكون أكثر شمولاً".
وبالفعل فقد كانت شركة IBM من أوائل الشركات التي قامت بتغيير سياستها في التوظيف، وذلك بتعيين 15 بالمائة من قوتها العاملة، من خلفيات غير تقليدية في العام الماضي على أساس المهارة بدلاً من المستوى التعليمي.
نحنُ إذن أمام توجُّهين: الأوَّل يتعلَّق بالتعليم في جعله وسيلة وليس غاية؛ وسيلة بمعنى أن يسلِّح المتعلم بالمهارات التي تفيده في مستقبل عمله، والبعد كل البعد عن الاتجاهات التقليدية الحالية وهي حشوه بالمعلومات والبيانات وغيرها في تعقيدٍ غير مبرر، وبأساليب عفا عليها الزمن. أما الثاني فيتعلق بالعمل الذي لا تنفعه الشهادات الفارغة من المهارات، ولا تفيده الدرجات العليا في مواد الرياضيات أو العلوم أو التاريخ أو غيره بقدر ما تفيده ما هي قدرات ومهارات هذا المتقدِّم للوظيفة.
إننا بحاجة إلى قرارات حازمة في هذين الاتجاهين من أجل تحسين الأداء التنموي لأوطاننا، إذ إن الاتجاهات الحالية في التعليم والتوظيف قد أحدثت عطلاً كبيراً في التنمية لأنها جعلت التعليم شهادة، والتوظيف مجرَّد رقم!!