ملائكة الريف

 

علي بن سالم كفيتان

ظلَّت تُعاني طوال حياتها من مرضٍ عُضالٍ رغم ذلك كان إيمانها بالله قوياً فلا تكاد تُفارق إبريقها الفضي اللامع وسجادتها الخضراء كانت ترعانا بعينيها الرحيمتين ووجهها المشرق فكنَّا نهرب ونختبئ خلفها فهي تملك حق الفيتو ضد الجميع هكذا عاشت بيننا وهكذا فارقتنا بحب. تحكي لنا كل يوم قصصا عن الفضيلة وتمجد أبي فهو أخوها الذي لم يخذلها يومًا فقد كان يحملها على ظهره عندما ننزح من مكان لآخر خلف الرعي عندما اتقلب ليلاً وافتح عيني أجدها تصلي في جوف الليل فيشع نور وجهها الوضاء ليُنير تلك العتمة في ذلك الكهف القابع بقعر الوادي أراقبها وهي تبتهل إلى ربها حتى يُغالبني النوم.

عندما يذهب الجميع لرعاية المواشي تقوم هي برعايتنا ورغم شقاوتنا إلا أنها تعرف كيف تجذبنا إلى كوخها المُتواضع الخالي من كل تبعات الدنيا فتحكي لنا قصصا وحكايات وأساطير من الماضي ولا نحس إلا ونحن في وسط النهار الذي تعود فيه أمي وعلى ظهرها أكوام القش لإطعام العجول فتعد لنا الطعام بينما تأخذ هي نفسها بعناء شديد إلى طرف الكهف فتتوضأ وتصلي الظهر على تلك الصخرة المسطحة ثم تسند نفسها إلى الأرض وتذهب في قيلولة بسيطة بعدها نحضر لها الطعام أنا وأختي تتناول منه القليل وتقول اتركوا هذا لسالم فهو يشقى طوال النهار لأجلنا جميعًا.

طلبت من أبي أن يأخذها عند عمي فهي تحب الأغنام ففعل ومكثت بضعة أشهر بعيدة عنَّا كنَّا نتذكرها في كل زوايا المكان سمعنا أنَّ حالتها الصحية تدهورت فجاء المرسال لأبي فذهب مسرعاً وفي المساء أتى يحملها على ظهره وإبريقها وسجادتها في يده فرحنا كثيرا وركضنا لاستقبالهما وضعها حيث تحب على صخرتها تلك فضمتنا إلى حضنها العليل ولأول مرة اسمع تلك الحشرجة من صدرها لكن ابتسامتها أذهبت عني الخوف عليها وفي الليل تأزم وضعها الصحي وكنّا جميعاً حولها والموقد يلتهم بقايا الحطب ويحدث فرقعات في الهواء فتغيب عن الوعي وعندما تعود لعالمنا تناديني وتأخذني داخلها وتبتسم وتقول لا تخافوا أنا بخير وفي كل مرة تسأل عن النهار هل طلع ولا بعد...

دخل الصيف وهو الموعد الذي ننتظره جميعًا للخروج من الكهف إلى رحاب الوهاد لنستمتع بكل نسمة من الريف فأزهار شجرة المشط (سغوت محليا) تعطر كل البقاع وتثمر أشجار التين فنتسابق كل صباح كي نسبق قطعان الأبقار لجمع الثمار ونعود محملين بخيرات الأرض إلى قرانا المتنقلة تلك... نزحنا إلى مصيفنا وعمتي معنا لكنها كانت تُعاني فقد زادت نوبات غيابها عن الوعي ودخلت لمرحلة متأخرة من الألم فكنا نتألم معها بينما هي تخفف عنَّا وتقلل من واقعها الصعب بأن تقول سأكون بخير لا تخافوا يا صغاري.

في ليلة صعبة نادت أبي فحضر على عجل وطلبت منّا جميعًا الانصراف بقيت أنا خلف الكوخ استمع إليهما قالت له أشهد الله يا أخي أنني أحبك وأرجو أن تسلم على أحمد إن لم تكتب الأقدار أن ألاقيه قبل موتي وأوصيك بالطفلين خيرًا كما أود أن يكون قبري بين تلكم الشجرتين على ذلك المرتفع... أنا أحب هذه الأرض ولا أرغب أن أرقد بعيدا عنكم في مقابر المدينة أريد أن أسمع أصواتكم وأستأنس بها في وحشتي الأبدية سأحلم أن يكبر الصبي والبنت وأن يكونا صالحين وأن يرزقك الله الذرية الطيبة ثم غابت عن وعيها فدخلت جدتي ورفعت رأسها برفق فلا زالت تتنفس وكانت ليلة الجمعة في ذلك الصباح أفاقت وقالت لأمها أريد أن اغتسل دفأت لها الماء على الموقد وأخذتها لخدر قريب فغسلتها وعندما عادت لكوخها قالت أحضري لي أفضل ثيابي وطيبيني فتباشرنا بعافيتها.

أخذ أبي أدوات الحفر وذهب حيث أوصت أن يكون قبرها وبدأ يحفر وأنا أرمقه من بعيد وحضر رجل آخر وساعده ثم جاء عمي ليكون ثالثهما وما كادوا ينهون مُهمتهم حتى أتى أخي يركض إليهم مسرعًا وقال لأبي لقد توفيت عمتي الآن وفي ظهر الجمعة صلى عليها الرجال الثلاثة والصبي والفتاة وواروها الثرى حيث أحبت أن يكون مرقدها الأخير.

......

القصة مستوحاة من أحداث حقيقية في ستينيات القرن الماضي في ريف ظفار.