أطفالنا أكبادنا.. والمجتمع مسؤوليتنا (1)

 

أنيسة الهوتية

سأذكُر موقفاً مَضَى عليه أربعة وعشرون عاما، ولكنني ما زلت أسمع صوتَ تلك الأم وهي تقول: "لم أستطع النوم طيلة الليل وأنا أشاهد ابنتي الصغيرة ذات الأربعة أعوام نائمة بسعادة، وهي تحضن عُلبة الدمية التي أخذتها من بيت الجيران، فابنتهم حصلت على هدية من والديها دُمية كبيرة في حجمها بعشرة ريالات، وأنا جلبت لابنتي دمية بميتين بيسة من دكان الحارة. نامت صغيرتي وهي تشاهد صورة الدمية على العلبة وتنظر إليَّ وتبتسم، واختنق قلبي من الحزن وكأنَّني أراها تنام تدريجيًّا بجوعها وهي سعيدة برائحة الطعام الشهي الذي لا يستطيع أهلها توفيره. فقررت ابتداءً من تلك الليلة، أن أعمل بكد دون كلل وملل حتى أستطيع أن أوفِّر السعادة لها ولأختها دون أن تشعرا بالحرمان".

ومثل هذه الأم، هناك الكثير من الأمهات والآباء الذين يسعون لسعادة أبنائهم من خلال توفير مختلف الاحتياجات لهم، من المهمة إلى غير المهمة، حسب رغبات الأبناء والأكثر طلباً في الزمن الذي يعيشونه، والذي في زمننا الحالي هو "الموبايل"، والذي يرغب فيه أغلب الفئات العمرية، ويدمنون عليه وكأنه قطعة سكر.. وبصيرة أولياء الأمور عمياء عن أن قطعة السكر تلك -ولا يستطيعون رؤية أنها- مدسوسة بالسم!

هذا وبالإضافة إلى إقناعهم لأنفسهم بأنَّه غرض ضروري للتواصل مع الأبناء في أوقات الدوام والاطمئنان عليهم، ولإسكات نوبات غضبهم بسهولة، والكثير من الأعذار والأسباب التي نسمعها من أغلبهم، وللأسف تعددت الأسباب والموت واحد، وهم أنفسهم وإنْ بكى طفلهم لأجل سكينٍ حادة، أو مسدس، أو بندقية، أو "يسوق سيكله" في الشارع، أو أن يسبح في الحوض بدون إشراف، أو أن يضع يده في النار، والكثير من الرغبات والمواقف والأدوات التي تكون خطورتها واضحة للعيان، تراهم يضربونه ولا يهتمون إن بكى لساعات طويلة ونام دون عشاء لأنهم في تلك اللحظة يسعون لسلامته ويهتمون بمصلحته وليس برغباته، ولكن للأسف ذلك التصرُّف لا يأتي منهم إلا في الخطر الواضح وليس في الخطر المستتر والذي يكاد يكون أخطر من غيره.

ونرجع إلى تلك الأم التي أوجِّه لها تحية كبيرة؛ لأنها عملت واجتهدت لابنتها، ووفرت كل سبل السعادة لها باستثناء "الموبايل"، إلا بعد انتهائها من الثانوية العامة، ودخولها مرحلة الدراسات العليا، ورغم أنها كانت في سن قانونية، إلا أنَّ تلك الأم كانت لا تزال تراقب ذلك الهاتف، وتوجه ابنتها توجيها تاما حول الاستخدام، والحذر الشديد من الأمور المشبوهة حولها، ومتابعة تفاصيل يومياتها رغم أنها امرأة مُطلَّقة وموظفة وكذلك ربة بيت؛ أي أنَّ الوقت لديها غير وفير، لكنها شغلته بالمهم إلى الأهم، وأدت دور الأب والأم بنجاح تام، وهذا واجب كل ولي أمر من حيث المحافظة على أمن وسلامة الأبناء، وواجبات أولياء الأمور لا تنحصر فقط في توفير المسكن، والملبس، والمأكل، والمشرب؛ فتلك من الأمور الأساسية التي لا غنى عنها، ويجب توفيرها لكل إنسان محتاج، أما مع الأبناء فهناك واجب التربية والتعليم، وواجب الحفاظ على سلامتهم الجسدية والعقلية والتوجيه السليم نحو حياة أفضل.

وتدليل الأبناء فتيات كانوا أم فتيان ليس بإعطائهم كل ما يريدون ويتمنون امتلاكه مقارنة بأقرانهم، إنما بتوفير ما يحتاجونه مع توفير بعض الرفاهية والسعادة المعقولة لهم؛ لأن تلك الأمور ضرورية للنفس البشرية، ولكن تحت الرقابة غير المتزمِّتة مع المعاملة الحسنة، والكلمة الطيبة، والثقة والحب، والتوجيه الصحيح مع الشرح؛ لأنَّ الأجيال الحالية ليست مثل السابقة؛ فهي لا تقبل الأمر والنهي إلا إذا قمنا بتوضيح الأسباب والمسببات، وهذه الأجيال تحتاج إلى الإرشاد والإقناع بحب وتفاهم.

يتبع...،