القلق من المستقبل.. جلسات عصف استشرافية

د. عبدالله باحجاج

هي جلساتٌ "افتراضية" نتصوَّر عقدها بمشاركة مجموعة مستقلة من الخبراء في علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع، بمختلف فروعها المتخصصة والدقيقة، يجمعهم الحس الوطني، والإيمان بحتمية النهضة العمانية المتجددة، وأهمية توقيتها السياسي والزمني، وتلكم أبرز الشروط الواجبة فيمن يشارك في هذا المؤتمر المقترح؛ لأنه يعنينا هنا الرؤى والحلول النابعة من الوطنية الخالصة والمجردة من أية منافع اقتصادية ومالية، أو أطماع استوزارية ومصالح شخصية أو فئوية أو مناطقية.

لا نَزعم أننا في هذه الجلسات سنُلم بكل الإشكاليات والطروحات التي تشغل لحظتنا الوطنية الآنية، أو أننا سنخرج بخارطة متكاملة للحلول؛ وإنما هي محاولة استشرافية تستخدم فيها كل المقاربات التاريخية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية في تحليل التحولات والمسارات الجديدة، وانعكاساتها الاجتماعية في ضوء تحديات جيوإستراتيجية مستجدة ومتجددة ومتعاظمة، وتفتح سيناريوهات عديدة غير مسبوقة.

هُناك عدة محركات دافعة لعقد هذه الجلسات الآن؛ بعضها يعود للمساهمة في إغناء نقاشات هذه المرحلة، والأخرى لدواعِي تقويم مسارات منفذة، وثالثة ترجع لظهور ملامح من التفكير الإستراتيجي لبعض النخب الوزارية لا تستوعب تحديات اللحظة الراهنة والمستقبلية؛ إذ إنَّ منتُوجَها الفكري لم يقدم لنا تحوُّلا يتناغم مع مفهوم النهضة المتجددة، كما ينقصها العمق والإخراج المجتمعي، لذا شهدنا تكرارًا للأخطاء القديمة التي تثير الرأي العام، كطرح تعمين مهنة توصيل الطلبات.

لذلك.. فالتفكير الإستراتيجي الجديد في بلادنا ينبغي أن ينطلق من 3 تحولات أساسية، ويتناغم معها إيجابا، ويعمل في الوقت نفسه على التسليم بمجموعة تساؤلات منطقية تُلح عليها الظرفية الوطنية الراهنة، وهذه التحولات هي:

أولًا: عهدٌ سياسيٌ جديد يتطلع لصناعة نهضة متجددة ببراجماتية ورشاقة في هيكلية الدولة، وبطموحات دولة متعددة مصادر الدخل وبتوازن مستدام في موازنة الدولة، وبنظام إداري واجتماعي متفاعل مع عهده السياسي الجديد، وحكومة تكنوقراط مقبولة اجتماعيًّا، ونظام ديمقراطي تشاركي يُعتد به في اتخاذ القرار. وهذه الغايات الكبرى تطرح تساؤلات موضوعية مهمة؛ أبرزها:

- الى أي مدى ستتمكن الدولة من الحفاظ على البعد الاجتماعي في مرحلة تأسيس هذه النهضة الواعدة؟

- وما حجم الآلام الاجتماعية المقدَّرة خلال مرحلة التأسيس؟ وهل هناك تصوُّر مُسبق لهذه الآلام؟ وهل هناك من آلية تعمل بصورة ديناميكية على مواجهة الانعكاسات الاجتماعية للتخفيف من حدة الآلام؟

- وهل التقليل من حجم المقاعد الأكاديمية للعام 2020/ 2021 يصب في مصلحة رؤية "عمان 2040"؟ وما هي خطط استيعاب الطلاب الذين لن تُتاح لهم فرصة تعليم ما بعد الدبلوم العام؟

- وما هي طبيعة الإطار الفلسفي الحاكم للتحولات الذي من خلاله يمكننا صياغة دستور أو منظومة أخلاقية للنهضة المتجددة؟

ثانيًا: الثورة الصناعية الرابعة المقرَّر تدشينها عام 2023، والتفكير مبكرا في الثورة الصناعية الخامسة وانعكاساتها على طبيعة النهضة العمانية المتجددة في أجندتها الإستراتيجية، مما ستختفي معه وظائف معلومة من الآن، في الوقت الذي لا تزال فيها عمليات التأطير والتكوين الجامعية والمهنية متأخرة عن روح الثورة الصناعية الرابعة.

ويتَّجه العالم إلى عصر هذه الثورة بسرعة زمنية فائقة، وملامحها قد بدأت بتغيير المفاهيم من الآن، تجلى لنا ذلك من خلال التوجه نحو اعتماد معيار المهارات، عِوَضًا عن الشهادات في التوظيف، وهذا المحور يطرح مجموعة تساؤلات موضوعية؛ أبرزها:

* هل التفكير في تعمين وظائف غير مهارية يتناغم مع التحديات المستقبلية؟

* هل تمَّ حصر عدد المهن والوظائف غير المهارية التي تشتغل فيها أعداد كبيرة من الجيل الجديد؟ وذلك حتى تكون لدينا تصورات شاملة بالقوى البشرية التي ستعول عليها النهضة المتجددة لمواجهة تحديات الثورات الصناعية المقبلة؟

لابد أنْ تكون لدينا الآن خارطة بالقوى البشرية في أوضاعها الراهنة، المعطلة والمنتجة، وطبيعة الوظائف والمهن وعوائدها المالية. فمثلا: كم عدد مخرجات الدبلوم العام الذين هم على قوائم الباحثين عن عمل؟ وكم عدد نظرائهم الذين تمكنوا من الحصول على فرصة عمل سواء في القطاعين العام والخاص ورواتبهم متدنية؟ وكم عدد الشباب الذين يشتغلون في مهن حرة غير دائمة العائد؟ وكم عدد المُسرحين من أعمالهم؟ قد نتفاجأ بالأعداد الكبيرة التي تنتظر قطار الثورة الصناعية الرابعة، فكيف ينبغي التخطيط لمستقبلهم من الآن؟

ثالثًا: التحديات الجيوإستراتيجية الجديدة. قدرُ بلادنا أن تكون في محيط إقليمي مستدام بالتحديات الجيوإستراتيجية، وقدرها أن تعيش في تحدٍّ متيقظ وعالِي الذكاء بصورة دائمة لمواجهتها حتى لا تؤثر على ديموغرافيتها (التركيبة السكانية) وجغرافيتها التنافسية؛ لذلك من الحتميات أن تنشغل بلادنا بهذه التحديات طوال مسيرتها التنموية مهما توالت وتعاقبت حقبها السياسية، وهذا من بين الأقدار التي لا يمكن تجاهلها أو حتى تناسيها لحظة واحدة، وستظل حاكمة لشأننا الداخلي، ومؤثرة في إستراتيجياته وسياساته الداخلية.

فإلى أي مدى يشغلنا هذا القدر بمستجده الإقليمي الجديد "سقطرى نموذجا" ومحاولات زج تركيا في الصراع باليمن في مرحلة انشغالات بلادنا بتأسيس عهدها الجديد؟

... إنَّ القراءة المتأنية لما سبق، تشير إلى الأهمية الوطنية القصوى لتأسيس النهضة المتجددة على دولة اجتماعية قوية، فكلُّ تلكم التحديات تثير جدلية الديموغرافيا والجغرافيا بصورة غير مسبوقة، وتتقاطع جميعها داخل السياق الزمني للعهد الجديد؛ لذلك فحصة البعد الاجتماعي في النهضة المتجددة ينبغي أن تكون مُعتبرة، وأنَّ أي مَسَاس مالي بالمنطقة الاجتماعية ينبغي أن يخضع لجلسة عصف ذهني حتى لا تؤثر على علاقة الديموغرافيا بالجغرافيا.

واذا ما أضفنا إلى تلكم العوامل مجموع عدد المتقاعدين في القطاعين الخاص والعام، فإن القلق من المستقبل القريب ستنعكس آثاره كذلك على القدرة الشرائية للمواطنين مما ستتأثر معه العجلة الاقتصادية، وتكون التداعيات اقتصادية واجتماعية، ولنا تصور تقاطعاتها مع التحديات الجيوإستراتيجية.

وهناك مجموعة من المجالات للتطوير المتزامن؛ لعل أبرزها: تصحيح المفهوم التنموي ومساره من المركزية إلى اللامركزية، ولعل أفضل نموذج هنا، يكمُن في اللامركزية الاقتصادية، وهو النموذج الأصلح لبلد كسلطنة عُمان مترامية الأطراف، والغنية بموارده وثرواتها وجماعاتها المحلية والمتوزعة على ترابها الوطني، وكذلك تصحيح المعادلة المقلوبة التي تؤطر الذهنيات الاجتماعية، وتقدم الحق على الواجب، بل حتى إنَّ هذا الأخير لم يكن مطالبا للحصول على الحق.

كلُّ ذلك صنع ذهنية متعالية ومتكاسلة، وثمة حاجة قصوى لتطوير الوسط الاجتماعي للنهضة المتجددة، ومثال ذلك أنْ يكون الحق مرتبطا بالقيام بالواجب؛ فهذا مثال لمجموعة أمراض في هذا الوسط ينبغي معالجتها من الجذور وليس من الأعراض، وهذه المعالجة ينبغي أن تكون الأولوية فيها لمجموعة أولويات اتُخذت فعلا، كالتقاعد الإجباري.

والحاجة الوطنية في توجهاتها الجديدة تقتضي إعادة تأهيل الباحثين عن عمل؛ سواء من حملة الشهادة الجامعية أو الدبلوم العام، من منظور صناعة المهارات وفق خطة ممنهجة تقترن بعملية الإحلال مباشرة، بالتنسيق مع الشركات الكبيرة في البلاد. وهذا التوجه يتناغم مع المسار العالمي استعدادًا للثورة الصناعية الرابعة، فهناك وظائف ومناصب تقنية وإدارية تتطلب بالدرجة الأولى المهارات أكثر من الشهادات الجامعية، وأكثر من 15 شركة في الولايات المتحدة الأمريكية غيرت سياساتها التوظيفية مؤخراً، وركزت على الاهتمام بالمهارات على حساب الشهادات.

لا يُمكن حصر صور القلق من المستقبل، ولا الحلول الناجمة عن جلسات الاستشراف الافتراضية في مقال واحد، لكننا نعتقد أننا قد تمكنا من فتح نوافذ سياسية لها من منظور كل التحديات الداخلية والخارجية بهدف تعزيز علاقة الديموغرافيا بالجغرافيا، وهو أكبر التحديات التي ينبغي أن تشغلنا الآن.