ما هي لغتنا القادمة؟
د. صالح الفهدي
يُقرُّ ابني -وهو دون العشرين- بأنَّه قد اضطرَّ لتعلُّم لغة "العربيزي" لسببين اثنين؛ الأول: لأن له من زملاء الدراسة من العمانيين من لا يستطيعون التواصل بالعربية؛ لأن نشأتهم اللغوية باللغة الإنجليزية، ويريدون التعبير بالعربية فلا يستطيعون كتابتها. أما السبب الثاني: فهو أن له بعض الزملاءِ في دراسته بالمملكة المتحدة من العرب المهاجرين الذين نسوا لغتهم العربية.
هذا التفسير يقُودني إلى ما يرتكبه بعض الوالدين من جريمةٍ بحقِّ لغتهم الأم؛ إذ ينشؤون أبناءهم على لغةٍ غير لغتهم، وفي ظنِّهم أنَّهم سيتعلمونها لاحقاً في المدارس والمجتمع، غير آبهين بأنَّ ألسنتهم ستكون حينها معوجَّة، ولفظهم سيكون ملتويًا، وهذا ما نلمسه لدى البعض ممن أتقنوا لغات غير لغاتهم منذ نعومة أظفارهم، فقد عملت على تقويم ألسنتهم لصالح نطقها، وليِّها عن غيرها!
لقد أسهم هؤلاء الوالدين في محق اللغة العربية، واللهجات التي اشتقت منها، إمَّا تسخيفاً وتسفيهاً منهم، وإما ظنَّا بأنَّ أبناءهم سيتعلمونها في المدارس، في حين أن بعض المدارس لا تكترثُ بتدريس اللغة العربية، علاوةً على أنَّ البيئة التي سينشأ فيها هؤلاء الأبناء يفضِّل أفرادها التحدث بالإنجليزية، وهكذا تضيعُ اللغةُ الأم، وتضيعُ معها الهوية التاريخية بما فيها من عادات، وتقاليد، وذاكرة، وقيم.
يقول الشاعر حافظ إبراهيم في الدعوة إلى التمسك باللغة العربية:
فلا تكلوني إلى الزمان فإنني
أخاف عليكم أن تحين وفاتي
أرى لرجال الغربِ عزَّاً ومنعةً
وكم عَزَّ أقوامٌ بعزِّ لغات
وإلى جانب الوالدين، يتحمَّل تعليم اللغة العربية جانباً كبيراً من المسؤولية، فتعليمها من وجهةِ نظري -ونظر بعض المختصين- قد نفَّر أبناءها منها، وذلك لعدم نهج تعليم اللغة العربية منهج التحبيب والترغيب، بل الإيغال في النحو والإعراب؛ فلماذا يحتاجُ الطلاب إلى هذا الإيغال الذي لا يستوعبه إلا المختصون؟! تقول الدكتورة هنادا طه في مقابلة تليفزيونية: "النحو العربي والتخصص به هو لذوي الاختصاص والهوى -بالألف المقصورة- فمعلم اللغة العربية لا يعقل أن لا يكون متعمقاً وعارفاً بهذه اللغة، بنحوها وصرفها وكلها، وعليه أن يستخدم لغةً صحيحةً محرَّكةً معرَّبة، وإنما للطلاب هو موضوع آخر"، وتضيف: "أنا عليَّ أن أختار الأنجع والأفضل وما الذي أستطيع أن أكسبه إياهم بشكلٍ لا ينسوه، أعطني شخصاً يذكر قواعد اللغة العربية.. نحن نتعلمها ولا نستخدمها، لدينا الصنعة وليست لدينا المَلكة". وتؤكِّد أنَّ: "الطالب أو أي شخص غير متخصص في مجال اللغة العربية واللسانيات لا يحتاج إلا لمبادئ أساسية في النحو تُعِينه على التحدث والكتابة بشكل صحيح نسبيًّا؛ فليستْ هناك حاجة مثلًا إلى إعراب الكلمات إعراباً تامًّا، وإنما يكفي أن يضبط بالشكل الصحيح أواخر الكلمات".
من المؤسِف أن يكون تعليم اللغة الأم لأبنائها مُنفِّراً لهم، وأن تُصبحَ حصَّة العربية من الحصص الثقيلة عليهم، ومردُّ ذلك إلى المنهجية التي اتُّبعت في وضعِ المقررات الدراسية للغة العربية بما فيها من تعميق لدراسة النحو والصَّرف، حتى عروض الشعر يتم تعليمها للطلاب، فما نفع الطلاب بتقسيم عروض الشعر وليسوا شعراء؟! أغلبُ الشعراء أنفسهم لا يكترثون لهذا الأمر؛ فهم يملكون الموسيقى الشعرية التي تغنيهم عن التشريح العروضي لقصائدهم.
وفي مسألة تحبيب اللغةِ إلى طلاب المدارس، فحين كنتُ أحضِّر الدراسات العُليا في المملكة المتحدة برفقة أسرتي، كان ابني وابنتي وهما في الصفوف الأولى يصطحبان معهما قصصاً في نهاية الأسبوع، وقد تدرَّجت المدارس الإنجليزية في مستويات هذه القصص، بداية من القصص التي تحتوي على الصور فقط، ثم بضعة كلمات، ثم زادت الكلمات وتقلَّصت الصور لتترك لخيال الطالب الصغير أن يصنع صوره بنفسه، وهكذا بدأ ابني في كتابة الشعر والقصة باللغة الإنجليزية في بواكير عُمره، ولو أنه استمرَّ يدرس في تلك المدارس لأصبح ربما اليوم من كتَّاب اللغة الإنجليزية وأدبائها..! ولقد كانت مدارسنا فيما نذكرُ في السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم تشجع الطلاب على قراءة روايات معينة من التاريح الإسلامي، أو سِير العرب، وكان لها أثرٌ على بلاغة الطلاب، وسعةَ مداركهم، إلاَّ أنَّها اختفت فأصبحَ أغلب الطلاب لا يجيدون التحدث بلغتهم، ولا يتقنون التفكير بها، ولا يحسنون صياغة رسالة بكلماتها..! وفي المقابل يستخدمون في حياتهم لهجة اضمحلَّت روافدها الشعبية من أمثال، وأشعار، وقصص، وفنون وغيرها.. فماذا هم فاعلون؟ ألم نكن نحن وراءَ أسباب بحثهم عن لغةٍ أُخرى ركيكة، حروفها أجنبية، ونطقها عربي لأنهم وجدوا فيها مهرباً من القواعد؟ إذا أراد الواحد منهم أن يكتب "ذهبنا إلى صلاة الجمعة، واشترينا بعض الأشياء" فإنه سيكتبُ بالعربيزية: (r7na 3la 9alat aljm3a ,O ishtarina b39’ al2ashya2).
وإذا كان الضعف اللغوي الكتابي والشفهي هو سمة من سمات طلاب العصر، فإنَّ لذلك ضررًا كبيرًا على شخصياتهم، وأفكارهم ومشاعرهم؛ لأنَّ اللغة ليست هي وسيلة تواصل جوفاء، وإنما هي حمَّالةٌ مشاعر، ونقَّالةٌ أفكار، وقد زاد الضرر ذلك هو أن أكثر الكتابات تتم على شاشات الهواتف والحواسيب الشخصية؛ مما يعني أن شخصياتهم ستكون هي الأُخرى ضحلة تستجدي الكلمات لتعبِّرَ عن مشاعرها، وهنا ستتمكن -في المستقبل القريب- روبوتات الذكاء الاصطناعي -على شاكلة الروبوت "صوفيا" الحاصلة على الجنسية السعودية- من أن تتغلَّب بقدراتها على التعبير عن المشاعر والأحاسيس أفضل من الإنسان ذاته الذي غذَّاها بإيحاءات هذه المشاعر، وتوصيفاتها الدقيقة.
... إنَّ على أصحاب القرار في دولنا ْأن ينتبهوا إلى الخطر المحدق بنا، والمتمثل في ضياع اللغة واللهجات التي تشتق منها؛ لأن في ذلك ضياعًا لكيانِ أمَّةٍ، وإرثها الطويل، بأزرارٍ هيِّنةٍ، وضغطاتٍ يسيرة على أرقامَ وحروف لاتينية، تنطق بالعربية.. فتتوه أمَّةٌ بحالها أمام هذه التقليعة/ الظاهرة.