حمد بن سالم العلوي
إنَّ المُتقاعدين الذين محكتهم الخبرات لسنين طويلة في الأعمال القيادية والإدارية، وفي العمل الميداني والممارسة التطبيقية، فقد جعلت من هذا اﻹنسان كنزاً من تراكم الخبرات، والتجارب اليومية الناجحة، فإنَّ البلاد أصبحت تزخر بثروة غير محدودة من مختلف الخبرات الفنية والعلمية والعلوم الإنسانية، وهي تسكن في عقل وضمير ووجدان الإنسان المُتقاعد، هذا الإنسان الذي أفنى زهرة العمر في العمل الوظيفي، وأشعل جذوة العقل في البحث والابتكار والإبداع من أجل الوطن، وأصبح يختزن في وجدانه الكثير من الحلول المُجربة، والمناسبة لتأدية العمل اليومي، وبشكل جيد يرضى به ضميره ومجتمعه ووطنه، وأحياناً أخرى قيادته، عندما يُؤكد على مقدرة فائقة على تنفيذ الخطط والمشاريع القومية بحسب النظم المُحددة لها.
إنَّ الحياة تمر عبر الدهر مرور القوافل، أو تسير كسير القطار، والتشبيه بالقطار لمن تجاوز مرحلة القوافل، ونحن في عُمان قد تجاوزنا القوافل، وإن كنَّا قد تخلينا عن وسيلة القوافل التي تعتمد على الجمال، إلا أننا لم نرتقِ بعد إلى مرحلة القطارات، ولكن بعضنا استخدمها في سفره، ومن لم يستخدمها صار مُلماً بعملها، إذن الوظيفة والتي كانت تسمى اصطلاحاً "البيدرة" أما أعمال العقود فتسمى "قطوعة" على العموم هذه الأعمال لها بداية ونهاية، ولما كانت الوظيفة تمثل البداية، فإنَّ النهاية اصطلح على تسميتها عند العرب بـ (التقاعد) وقد ظنَّ البعض أنها النهاية من كل شيء.
ولكن مع الدول المتقدمة والتي سبقت بلاد العرب في العمل الوظيفي، عرّفوا التقاعد على أنه نهاية للعمل، الذي يتطلب جهدا جسديا ونشاطا عضليا فوق المعتاد، لذلك أخذت الشركات الكبرى، وأيضاً بعض المؤسسات الحكومية، تتهافت على حجز نصيبها من المتقاعدين، وذلك لاستثمار خبراتهم في الاستشارات والتخطيط الموجه، ولقناعتهم بالتغيير والتجديد، فإنَّ مزج الخبرات المكتنزة في عقول المتقاعدين، وذلك مع نشاط جيل الشباب المتحمس للعمل، فيفرملون طموحهم بالخبرات، والتجارب التي يحملها كبار السن، وهنا يضبط المسار بين النشاط الفكري والجسدي، والعقل مع الذكاء الوجداني، فهذه الصفة الأخيرة يمتلكها الكبار، ويفتقدها جيل الشباب الذي يعتمد على الذكاء العاطفي أكثر من الوجداني.
إنَّ ما يحزُّ في نفس الإنسان الغيور، أن يرى ثلث المجتمع من القادرين على العطاء والعمل معطلين! أو معطلين هم أنفسهم بحجة أنهم تعبوا من العمل؟! ولكن لا أحد يتوقف عقله عن التفكير، فهل نقتل في أنفسنا ثورة العقل بالأفكار المُفيدة؟! ونكتم في الضمير الخبرات الإيجابية! وهل نفعل ذلك من ذات أنفسنا! وذلك رغم تحذير رب العزة والجلال من الخوف والهلع في قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ..} المعارج الآيات (21،20،19) والقول في الحديث الشريف: (لا تَزُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ أَخَذَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ) فهل ضمن المُتقاعد نجاته من هذا السؤال؟! حتى يكتفي بما قدَّم أثناء الوظيفة! فيجلس ينتظر التقاعد الأخير من الحياة، رغم أنه قادر على العمل والعطاء، ولكنه فضل أن يركن إلى التَّسبُّهن وقلة الحيلة.
إنَّ البلاد تعجُّ بالأعمال والخيرات الكثيرة، وإن التجارة على رأسها، والمتقاعدين يفترض أن تكون لهم مكانة في كل ميدان من ميادين العمل، ونحن نعلم أنَّ الوافدين يشكلون لوبيات لإفشال المنافس الوطني، وإنجاح ابن جلدتهم، ولكن السؤال هنا هل ستظل الدولة تغض الطرف عن ذلك؟! وإلى متى هذا الصمت وقلة الحيلة؟! إنَّ التشريعات وحدها لا تكفي، وإنما نحتاج إلى إجراءات مرافقة لها، وأنشطة فطنة لتلك الألاعيب الخبيثة التي يقومون بها، وربما الجمعيات الأهلية تحد من بعض تغولات الوافدين، والذين يتسترون تحت مظلة مواطن ضعيف، أو أناني لا ينظر إلا لمصلحته الفردية.
إنَّ عُمان تحتاج إلى جهود كثيرة ومضاعفة، حتى تدور عجلة التطور بالاتجاه الصحيح، ويجب ألا يُعطل المتقاعد وتهمل خبراته، وذلك لأنه أخلى الوظيفة التي كان يشغلها ليحل فيها بعض من الجيل الجديد، وقد أصبح لدينا شعور جازم، بأنَّ العهد الجديد لحضرة صاحب الجلالة السلطان الأمين هيثم بن طارق المُعظم - حفظه الله ورعاه - على مسافة قريبة من الجميع (الوطن والمواطن) حفظ الله عُمان وشعبها الأبيِّ وسلطانها المُبجل وإلى المزيد من الرقي والتقدم.