د. صالح الفهدي
إذا كنَّا قد استعضنا عن اللغة العربية الفصحى بلهجات مشتقَّةٍ منها، فإنَّ هذه اللهجات قد فقدت الكثير من روافدها اللغوية عبر مرور الأجيال، والصورة هنا أشبه بالبحيرة التي تعتمدُ على روافد تأتيها من شعابٍ أو أنهارٍ مختلفةٍ تجدِّدها من ناحيةٍ، وتبقيها حيَّةً من ناحيةٍ أُخرى.
وإذا كانت اللغةُ الأمُّ معطَّلةً في استخدامها، فهي أشبه باللُّقى الجامدةِ في متحف، فإن اللهجة وهي تفقدُ روافدها لا تستنجدُ باللغةِ الأمِّ في إِسعافها، نظراً لفكرةِ شائعةٍ خاطئةٍ بأنَّ مفردات اللغة العربية الأم لا تتوافق مع العصر، أو لأن مستخدمها في السياق الكلامي يعرِّضه لاستهزاءٍ، أو يُنظرُ إليه وكأنه يُخاطبُ قوماً في أزمنةٍ سحيقة..! الأمر الذي يجعلهُ يُعلي من شأن اللفظة الأجنبية خاصة الإنجليزية لأنه يُدرك أن النظرة نحوه ستكون نظرة إعجابٍ وتقدير!.
لقد كان جيلُ آبائنا يستعين في أحاديثه باللهجات الدارجة على ما أُسمِّيه روافدَ للهجاتٍ، تسهم في إغناءِ الفكر، وبهذا الإغناء تستمر اللغة/اللهجة. كانت الأمثال الشعبية لا تفارقُ الأحاديث لأنها كانت حيَّة في الذاكرة التي تستحضرها أنَّى اقتضى الموقف، لكننا اليوم بالكادِ نسمعُ هذه الأمثلة الشعبية يستخدمها الناس في أحاديثهم، فضلاً عن أن الأجيال الجديدة من الأبناء لا يكادون يسمعون بها. وقيمة الأمثال الشعبية هي أنها تشكِّل مراجعَ يأنسُ لها فكرُ الإنسان، ويتكأُ عليها فكرهُ، وتلقي في نفسه الطمأنينة بأنه يفكِّر بطريقة منطقية لأن الأمثال الشعبية هي محصَّلة تجارب لأناس عركوا الحياة، فأمدَّوا ثقافتهم بحصادِ هذا المعترك الطويل.
وقس على ذلك أيضاً الأشعار الشعبية التي هي أيضاً ذاكرةُ أمَّة، وتجديدٌ ليس لطاقتها الفنية والأدبية وحسب، بل وإثراءٌ لفكرها، وإراحةٌ لوجدانها لأنها تتلاقى في مفرداتها البيئية البسيطة مع المشاعر المعاشة، معبِّرةً عن الاختلاجات النفسية التي تدور في النفس، بلغةٍ مبسَّطةٍ ذات صورٍ رائعةٍ على رغم استخدامها لمفردات البيئة الدارجة.
الفنون الشعبية هي الأُخرى بدأت في الضمور وقد كانت وعاءً للأَشعار الشعبية لأنها توثقها عبر الغناء والإنشاد بها، لكن ضمورها يفقد اللهجات رافداً أساسياً من روافدها الوجدانية. رافدٌ ثالثٌ هو القصة الشعبية الشفهية التي تجسِّد رافداً رئيساً من روافد اللهجات قد انقرضَ هو الآخر، ونُحن نُعزي الكثير مما شكَّل اهتماماتنا الأدبية إلى القصص التي كنَّا نسمعها من أمهاتنا وجدَّاتنا في مرحلةِ الطفولة. كانت المجالس الشعبية أيضاً عامرةً بالأقاصيص، لكن المجالس الشعبية بصورتها التقليدية قد اختفت، وإن كانت من ثمَّةِ عودةٍ لها، فقد أصبحت صورتها مختلفةً من حيثُ المواضيع المتداولة فيها، وطغيان استخدام الهواتف النقالة على أحاديث النَّاس فيها..!
إذن فَقَدَتْ لهجاتنا روافد أساسية فأصبحت شحيحة المُفردات، هزيلة العبارات، لا تكاد تسمع عبارة حتى تلصقها في لسانها إلصاق الصمغ، مثل عبارة "الأمور طيبة" التي أفسِّرُ شيوعها لعدم ظهور مرادفاتٍ لها تشكِّل خياراتٍ بديلة، بل الأدهى والأمر الاستعانة بكلماتٍ أجنبية مثل "already" لأنَّ المتحدث قد استلطفها، واستخدمها بدلاً من أن يستخدم كلمةً من لغته هي "مسبقاً" وكأنما يرتاحُ لتلك، ويستثقلُ هذه، ولو أنَّه استخدمها وشاعت بين الناس لكانت أرقى وأسمى.
عدم إلمامهِ بلغته جعله يستخدمُ مفردات في غير موضعها لأنها شاعت بين النَّاس، وكم نبَّهت لمثل هذه الاستخدامات غير السليمة، على سبيل المثال درج استخدام كلمة "سُبَّة" على أنها "سبب" وهي ليست كذلك، فصار يستخدمها الناس وهم يعتقدون أنها تعني سبباً، وهي تعني في الأساس "العار" ولو عرفوا لصعقوا!
لقد أفضى بنا الشحُّ في اللهجات التي نتحدَّثُ بها في سائر شؤوننا بسبب اضمحلال روافدها التي أشرتُ إليها نظراً لموت أجيالٍ كانت تمثِّل لها تلك الروافد عناصرُ حياةٍ، ومنابعُ تعبيرٍ عن المشاعر والأحاسيس، أقولُ أفضى بنا الشحُّ إلى أننا لا نمتلك الألفاظ المُتجددة التي تختلفُ عن الشائع من العبارات في المُناسبات فنظلُّ نكرر عبارات لا نكاد نجدُ لها بديلاً مثل: "كل عام وأنتم بخير"، و"عيدكم مبارك" حتى عبارات السؤال عن الأحوال تظل الكلمات هي نفسها لا تتغيَّر.
ومن وجهة نظري فإننا لم نعُد نمتلك لهجةً تمتلكُ الكلمات العميقة التي نُعبِّرُ بها عن أحاسيسنا الوجدانية، عدا المهتمين بآداب اللهجة العامية كالشعراء النبطيين فقد أصبحوا أكثر أهل العامية تعبيراً عن الصور الوجدانية.
هنا تبرزُ الإشكالية الكبيرة وهي أنَّ القضية ليست مقتصرة على انقراض كلمات، واضمحلال عبارات، وفقدان روافد، وإنما على انزياح لغة بأكملها، وحلول أُخرى مكانها، يفرضها واقعُ الناس المستسلمين لأحواله، والراضخين لشروطه. وفي هذا النطاق فإن منظمة «اليونيسكو» تقدِّر عدد اللغات الإنسانية التي انقرضت تماماً في القرن العشرين، بنحو 300 لغة، وهو رقم ضئيل إذا ما قورن باللغات التي تقدِّر المنظمة بأنَّها آيلةٌ للإنقراض بحلول عام 2050، وهو ثلاثة آلاف لغة، من بين ما مجموعه سبعة آلاف لغة محكية أو مكتوبة!.
وإذا استمرَّ هذا النزيف اللغوي لدينا، والانزياح نحو اختراعِ لغةٍ مركَّبةٍ لا أصلَ لها فإنَّ لغتنا وليس فقط لهجاتنا ستكون ضمن ذلك العدد المنقرض من اللغات..! إنَّ ضياعَ لغةٍ يعني ضياعَ أمَّة بحالها، وتلاشي كل جذورها الثقافية، وهُوياتها، وتاريخها، وكل شيءٍ يرمزُ إليها!