نزوى والقط الأسود

 

د. إسماعيل الثابتي

hi618668072@gmail.com

 

بينما كنت في مسقط، أغلق المطار، بسبب جائحة كورونا، وحتى المدينة تمَّ عزلها عن الولايات الأخرى، بسبب هذا الوباء المحترم، ولم يعد ثمة شيء مفتوحا، سوى بعض المحلات الغذائية وما شابه ذلك، وقد أمضيت هذه الفترة العصيبة والمؤلمة في أحد الفنادق متنقلاً ما بين السوشال ميديا والإنترنت أغلب الأوقات والفضائيات قليلاً، في ظل زخم من الأخبار الحقيقية والزائفة والطائشة والصاعقة والتي أحياناً تسبب ألماً حقيقياً لمن ألقى السمع وهو شهيد .

فالعصر عصر الخبر والمفعل للخبر والمُكذب للخبر وبينهما الناقص والزائد والمضاد والذي يأخذ من الخبر لقمة ثم يركب عليها البهارات غير المتعلقة به ثم يلقيه في فم الطائش والمارد، وأنا المحصور (المحظور) بين أربع جدران، ماذا نعمل لولا حصن من الثقافة والإعلام قد بنيناه في خزائن ذاكرتنا منذ أمد بعيد.

وبعدما انتهى عزل محافظة مسقط، قلت لابد من الخروج إلى مدينة طالما سمعت عنها كثيراً جدًا، إنِّها نزوى بلد العلم والعلماء ولكن اسمها لدى الشارع مرتبط بالأساطير والسحر والشعوذة، لدرجة أنك تعتقد أن الأساطير كلها خرجت من نزوى وصديقتها بهلاء، وهاتان المدينتان كنَّا نتحدث عنهما أيام الجامعة، لأن ثمة طلبة درسوا معنا من السلطنة ولكن لم يكونوا من تلكم المدينتين

استأجرت سيارة وذهبت إلى نزوى، وكان الطريق سهلا وسالكا وهادئا ليس به معوقات لا من الأمطار ولا الفيضانات التي أسمع عنها، ولا أي معوق آخر. وقلت سأجلس في المدينة حتى يفتح المطار، ولما دخلت المدينة بحثت عن القلعة والفنادق الأثرية، ولكن مع الأسف لم تكن الفنادق الأثرية كما أردت، فالغرف التي شاهدتها لم تمنحنِ فرصة للكتابة، فهناك فنادق أثرية في قطر والشارقة مزجوا فيها القديم بالحديث بطريقة حديثة تجلب السياح فأصبحت مثالا، ولا تكاد تجد فيها غرفة من كثرة الزوار. وخرجت أبحث عن فندق آخر، ووجدته ومعي كل الأغراض التي لا تجعلني احتاج إلى الخروج هذا اليوم وقد يكون غدا أيضًا، ووضعوا لي طاولة قرب النافذة، ووضعت عليها كتبي وأوراقي وأقلامي والكمبيوتر، نمت كالعادة ساعة أو ما شابه ذلك ثم قمت للكتابة

ولما ذهبت الشمس إلى السقوط في نزوى لأودع يوما لي واختلط الظلام بشفقها وغابت، نعم إنها غابت الآن، وبينما أنا كذلك على الطاولة مشاهدا النافذة، وإذا بقط أسود على النافذة، كيف استطاع أن يصل هذا القط هنا لا أدري، ولو لم أنتبه إليه لضرب رأسه بالنافذة، كيف صعد في هذا المكان لا أدري، لا أعرف أي أحد في هذه المدينة، فأنا غريب في مدينة الغرباء، ثم اتجه إلى النافذة الأخرى ماشياً ببطء، ولكن العقلية البدوية مهما كانت ثقافة الشخص تبرز بلحظة فتسقط المشهد دون أن تترك الزمن يكمل مشاهدة الحدث، فقمت وفتحت النافذة، واختفى بطريقة أيضاً مريبة، فهل طار، هل سقط فابتلعته الأرض، لا أدري ولكنه اختفى برمشة عين.

إنها ليلة ليلاء! ولا أعتقد أنه ذهب بشكله وجسمه إلى جهة أخرى، مستحيل، أنا متأكد من ذلك. والغرف كلها فارغة عن اليمين وعن الشمال.

لكن عندي شغل كثير على الكمبيوتر والمطار مُغلق والظروف المتشابكة كأنها ظلمات في بحر لجيي يغشاه موج من فوقه سحاب، تجعل الإنسان يلغي أشياء كثيرة من الذاكرة وإن كانت مهمة جدًا.

وعليَّ أن أنسى حادثة القط وأدخل في نفق الكتابة وإنهاء ما يمكن إنهاؤه في هذه الليلة، وفي اليوم التالي قلت سأخرج لأرى ما يمكن أن أعرفه عن نزوى وأساطيرها التي ما زالت تُقال شفاهة وليست مكتوبة، فمثلا الإنسان يطير من مكان إلى مكان آخر، أو السوق يتحول إلى جهة أخرى، أو أن الإنسان يستبدلونه فيصبح شاة يباع في السوق، كل هذا الحديث وغيره الكثير يُقال شفاهة إذا أتى اسم نزوى، ويغفل الناس عن أنها بلد العلم والعلماء والأدباء والشعراء وغير ذلك الكثير.

خرجت إلى القلعة التراثية، ووجدت فيها المكتبات، وأنا إذا رأيت مكتبة لا بد أن اشتري منها تشجيعًا لبقاء باب المكتبة مفتوحًا إلى الأبد، واشتريت كتابا جميلا بعنوان "ثق في الحياة" للكاتبة لويزا هاي.

وذهبت أنظر إلى المنطقة الأثرية المهملة ولو كانت هذه البيوت الأثرية في دول أخرى لكانوا عملوا منها قصصا وروايات وتراثا وتاريخا وثبتوا أجدادهم من خلالها، وأحاطوها بجدران من ذهب، وتجولت في القلعة التي كانت شبه مُغلقة، وفي الطريق إلى الفندق وقفت عند محل يبيع ويشوي الأسماك، واشتريت منه، وعدت إلى الفندق، ولما جلست للعشاء وجدت أن البهارات التي وضعت على السمك، غريبة فلم أذق مثلها من قبل، تعطي السمك لذة عجيبة، هل أهل نزوى استسقوا بهاراتهم أيضًا عن طريق الجن، لا أدري!

بقي من السمك الكثير، وتذكرت القط الأسود، وذهبت إلى أسفل النافذة، ووضعت السمك بصحن القصدير مفتوحاً، عشاء له، فلا يوجد في الغرف يمينا ويسارا إلا أنا، الغرف كلها خالية، وقد يكون الفندق بأكمله فارغاً. ورجعت اشتغل على الكمبيوتر، وبعد ثلاث ساعات، قلت لأرى هل جاء القط، أم قد يكون قطا آخر قد أكل السمكة، وذهبت إلى أسفل النافذة، فإذا بالقط الأسود الذي رأيته بالأمس هو هو بنفسه موجود، ولكن يحرس الصحن، وجالس بقرب الصحن جلسة غريبة، لا حول ولا قوة إلا بالله، إنها الكارثة التي لم أتوقعها، ولم ينظر إليَّ نهائيا، رغم أني ناديته كما تنادى القطط، ولم يبال بأي شيء.

رجعت إلى الغرفة، وراسلت صديق دراسة من أمريكا يسافر كثيرًا، فأجابني إجابة واضحة، قال يحدث مثل هذا كثيراً في القرى الأفريقية، إذا كان الشخص غريبا ودخل المدينة، يرسل إليه أحدهم من حيث لا أحد يعرف من هو (أحدهم)، ليكتشفوا هذا الغريب، ماذا معه، ولماذا دخل؟ وأشياء كثيرة قالها لي،  وشرحت له عن السمكة، فقال هو لا يأكل، ولكن سيغيب في الحال. وحاولت نسيان الموضوع، وفي صباح الغد عدت إلى مكان الصحن تحت النافذة، فوجدت الصحن بسمكه كما هو، مثلما قال صديقي الأمريكي في مكانه ولم يأكل القط منه شيئا  أبدا، ولكن وجدت الصحن قد تغيرت جهته! فحزمت أغراضي وعدت من حيث أتيت، والله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين.

تعليق عبر الفيس بوك