سؤال التجديد والقراءات المعاصرة

 

عبدالله العليان

تابعتُ عن بُعد الندوة الحوارية، منذ عدة أيام، على قناة أنس على موقع "يوتيوب"، بين مسقط والرباط، والتي حملتْ عنوان "الدراسات القرآنية وسؤال تجديد الفكر الديني"، للباحث المغربي الدكتور مولاي أحمد صابر.

الحقيقة أنَّني سعدت بهذه القضية الحوارية، التي تحدث فيها المحاضر، ثم أسئلة المتابعين له في هذه الندوة. وقد لفت نظري عنوان الندوة، التي أشرت إليها، والتي قضية اهتم بها الاستشراق القديم ثم الجديد، وتبناها بعد ذلك بعض من الباحثين والكتاب العرب الذين هم في غالبيتهم درسوا في الغرب، واقتربوا من فكره، وقلدوه، بـ"القراءات المعاصرة"، وهذه الدراسات القرآنية هي رؤية غربية استشراقية قديمة، وعليها الكثير من الملاحظات تجاه النص القرآني، والتي في أغلبها قراءة أيديولوجية، مع أنَّ القرآن الكريم قُدِّمت فيه ربما آلاف البحوث في مناهج التفسير، القديمة والحديثة، ومنها القراءات التفسيرية المعاصرة، في التأويل والمفهومات القرآنية وغيرها، وهذه "الدراسات القرآنية" حولها الكثير من الملاحظات من بعض الباحثين فيها، أو أن أغراضها تتعدى ما هو متعارف عليه القراءات تجاه النصوص الدينية وبالأخص النصوص القرآنية.

هذا ما عبَّر عنه الأكاديمي التونسي أبو يعرب الحبيب المرزوقي، في محاضرته بدار الحكمة في تونس، منذ عدة سنوات، وكانت بعنوان "الدراسات القرآنية: حقيقتها وأصالة القرآن الكريم"، وقال بالنص: "أردت أن أسأل دعوى حداثة هذه الطريقة ودلالتها الأيديولوجية والأبستمولوجية. فاكتفيت بالإشارة الملمحة لبيان أمرين:

1- بيان أن هذه الدراسات أكثر تخلفاً من التفسير بالأثر.

2- تنافيها مع الفكر الحديث يغفلها عن حقيقة القرآن.

كيف ذلك؟ أولا: ما العائق الأبستيمولوجي الذي يحول دون هذه الدراسات والانتساب إلى الفكر الحديث؟ ظن أصحابها أن الفكر مرآة عاكسة لما يسمونه الواقع. وعكس الفكر "الواقع" يفترض وهمين لم يعد الفكر الحديث يقول بهما: أنَّ العلم حصيلة تلقي العقل لما يأتيه من الخارج أو ما يسمونه واقعا بصنفيه. وصنفاه هما: الظرف التاريخي الثقافي والنصوص المتقدمة عليه، والتي تعالج نفس القضايا أو ما يماثلها للاشتراك في اسم النصوص الدينية في هذا الظرف.

ثانياً: أشار د. أحمد صابر إلى ما أسماه "جهود بعض الباحثين العرب وقراءاتهم للنصوص الدينية"، وأشار إلى كتابات محمد أحمد خلف، ونصر حامد أبو زيد، وطيب تيزني، وهؤلاء تم نقد مشاريعهم الفكرية، وربما تكون لنا محاورات مع بعض هذه المشاريع، التي قد نختلف أو نتفق معها، فيما يتعلق بالمنهج أو الأفكار المطروحة، وهذه ليست مجال حديثنا في هذا المقال.

ثالثاً: في مسألة المشاريع الفكرية، كان للدكتور أحمد صابر رد على مقال للدكتور رضوان السيد، بجريدة الشرق الأوسط اللندنية، حمل عنوان "الحملة على الإسلام والحملة على العرب"، اتهم فيها رضوان، د. محمد أركون في مقدمة هؤلاء، ومما قاله د. صابر، أنَّ رضوان كان متحيزا: "واصفا فيها العقلانيين العرب وفي مقدمتهم المفكر الجزائري محمد أركون بكونهم متحاملين على الإسلام (:) -مضيفاً- مع احترامي الكبير للدكتور رضوان السيد. وأتساءل إذا أعطينا الظهر نحن الشباب للمشاريع الفكرية في الساحة الثقافية اليوم وعلى رأسها مشروع محمد أركون وغيره المشاريع المعروفة.. ماذا سيتبقى لنا نحن الشباب؟ هل نعود لكتب الأقدمين ونحذو حذوها حرفا بحرف ونسلك طريقها شبرا بشبر؟!".

أنا أستغرب أن يكون د. أركون بهذا الوصف، كقدوة للشباب في مشاريعهم الفكرية، مع أن محمد أركون لا يُخفي فكره تجاه الكتب المقدسة، ومنها نصوص القرآن الكريم، وإخضاعها لمناهج النقد الغربية، مثل التفكيكية، والأنثربولوجية واللسانية والتاريخانية، وغيرها من المناهج التي من الغريب إسقاطها على نصوص قطعية، وخارج سياق الفكر العربي الإسلامي، ولا أريد أن أتوغل في الرؤي الأركونية، فهناك الكثير مما يقال فيما يطرحه د. أركون، لكن يكفي ما قاله المفكر والأكاديمي المغربي المعروف د. عبدالمجيد الصغير، في مقدمة كتاب د. الحسن العبّاقي "القرآن الكريم والقراءة الحداثية: دراسة تحليلية نقدية لإشكالية النص عند أركون". ومما قاله د.عبد المجيد في هذا التقديم إن: "أعمال محمد أركون لم تستطع التخلص من الطروح التبشيرية والاستشراقية القديمة، بل إنه قد أضاف إلى تلك الطروح أسلوبًا استفزازيًّا مليئًا بالقدح والتجريح والقذف، ما ينمُّ عن العجز عن تقديم البديل، مع الركون إلى التّكرار و"التبشير" بالعلوم الإنسانية والقراءة الحداثية، بعيدًا عن ضوابط القراءة مع الغفلة عن الخصوصيات التاريخية والفكرية؛ مما يجعل كل أعمال أركون عن الفكر الإسلامي نموذجًا ممتازًا للفكر الإسقاطي البعيد عن الضوابط المنهجية المراعاة في العلوم الإنسانية عامة".

وأعتقد أن نقد د. رضوان السيد لأركون، ليس في هذا المقال فقط، فقد انتقد أصحاب القراءات الحداثية -ومنهم محمد أركون- فقال في كتابه "الإسلام المعاصر"، إن "الذين يدعون للتجديد اليوم لا يجتهدون في ابتداع طرق أفضل، بل يحاولون التخلص من الإسلام كله". وهناك الكثير من الكتابات الناقدة للمشروع محمد أركون، ليست خافية على الباحث أحمد ناصر.

رابعاً: أشار د. أحمد صابر في حواره مع المتداخلين في الندوة إلى مشروع د. عبدالله العروي، وأشار بالاسم إلى كتاب "السُّنة والإصلاح"، وأتى بنص من هذا الكتاب للعروي: "من لم يحييه القرآن فهو إلى الأبد ميت"!

والحقيقة أنَّ هذا الكتاب ينضح بالأفكار التي اعتبرها بعض الباحثين، عكس مقصود هذه العبارة، وتناقضها تماما، ومنها كتاب د. امحمد جبرون: "إمكان النهوض الإسلامي مراجعة نقدية في المشروع الإصلاحي لعبدالله العروي"، واعتبر د. جبرون ما جاء في هذا الكتاب، أن "القرآن  في نظر العروي من حيث المضمون هو استعادة بشرية لرسالة إبراهيم عليه السلام المتحللة في الوسط العربي"! والواقع أن الأستاذ العروي، عُرف عنه تعلقه بالنموذج الغربي إلى حد الهيام، ودعوته في سلسلة المفاهيم الاندماج في النموذج الغربي الفرنسي، ومن عباراته أن "لا إلحاق إلا بالالتحاق"، و"طي صفحة"، و"القطيعة مع التراث العربي"، مع أن للعروي الكثير من التقلبات الفكرية، فأحياناً يقول "التاريخانية هي الحل للتأخر التاريخي العربي"، وأحياناً يرى "الليبرالية هي النظام الفكري المتكامل"، وأحيانا يؤكد الحل في "الماركسية الموضوعية"، وإن كان بعد زلزال الاتحاد السوفيتي، لم يعد يذكر الماركسية، لكنه متمسك بالتاريخانية مع ما عليه من النقد والتسفيه كما قال.

وهناك انتقالات كثيرة للعروي في مشروعه، من د. محمد عابد الجابري، ود. عبد الكبير الخطيبي، وبنسالم حّميش، ود. محمد الشيخ.. وغيرهم، لكنَّ المقام لا يتسع لشرح هذه الانتقالات.

خامساً: تطرق د. صابر في الحوار إلى أهمية "لاهوت" عربي، ولا أدري ما الحاجة إلى اللاهوت، وهو مصطلح كنسي غربي، متعلق بالعقائد، ونحن لا نحتاج لا إلى لاهوت ولا ناسوت، وهذا من التراث المسيحي، ومع ذلك لدى المسلمين ما يقابله، وهو علم الكلام، والحديث الآن عن مطلب "علم كلام جديد".. فلماذا اللاهوت إذن؟!

ومع اختلافنا مع د. أحمد صابر في بعض ما ناقشناه معه -وكما قال الشاعر العربي- "يبقى الود ما بقى العتاب".