السر الذهبي للبقرة الصفراء (2)

أحمد بن سالم الحوسني

   استعرضنا في لقاء سابق سرا ذهبيا حوته قصة بقرة بني إسرائيل، يصلح ليكون معياراً وقانوناً لحياة أكثر رخاء وتحكما، والسر هو: "إن كل زيادة في التفاصيل من أوصاف أو شروط أو قيود ينشأ عنها زيادة في الكلفة". وقد تطرقنا لجملة من الأمثلة لتوضيح هذا السر وربطه بحياتنا اليومية، وتوقفنا عند تساؤل قد يعرض في الأذهان مفاده: هل هذا يعني أن الإنسان لا يطلب الأفضل أو الأجود؟

  وستأتي الإجابة عليه تالياً بإذن الله، لكن قبل ذلك لابد من إيضاح بعض النقاط:

1- الكلفة المقصودة في السر ليست بالضرورة كلفة مالية؛ إذ قد تكون في الجهد أو الزمن، فمثلا إن طلبت من شخص أن يجري مسافة مائة متر رافعا إحدى ساقيه زدته كلفة في الجهد بقيد رفع الساق. وقد تكون الكلفة ذهنية كمثل من تقيد بفكرة أو توجه أو مذهب أو نظرية أو استراتيجية معينة، سواء نشأ عنها كلفة في المال أو الجهد، أو لم ينشأ.

2- زيادة الكلفة يراد بها الكلفة المباشرة في المهمة أو المشروع، أما بالنسبة للكلفة المستقبلية فأمر آخر، بمعنى أنه ربما زادت التكلفة المباشرة في المشروع لكن وفرت على المدى البعيد في الأمر نفسه أو في أمور أخرى مرتبطة به. فمثلا قد تستعمل في البناء طوبا حراريا أو زجاجا عازلا فتزداد الكلفة الحالية عليك، لكنها قد تخفض من استهلاك الكهرباء مما يوفر كلفة مستقبلية.

3- زيادة الكلفة ليست بالضرورة أمراً سلبياً، بل أحياناً تكون مطلوبة، فالشرع نفسه يضيف قيوداً على الإنسان وحريته وعبادته ومعاملاته، وهذه القيود تضيف كلفة؛ لذا يسمى المخاطب بها مكلفاً، والتكليف الشرعي يعود بالفائدة العظيمة على الإنسان، ومع ذلك فهو مؤكد للمعيار، وكذلك بالنسبة للقوانين والأنظمة تضيف قيودا تزيد الكلفة، ولكنها تعود بالمصلحة. وفي قصة البقرة لم تكن خالية من القيود ابتداء، فالله أمرهم أن يذبحوا بقرة، دون غيرها من الأنعام، ولم يقل: أن تقدموا قربانا، أو أن تذبحوا هديا، فالبقرة نفسها وردت قيدا زائدا.

4- إن المتأمل في كتاب الله يجده لا يفصل كثيراً في العبادات الفردية كالصلاة والزكاة، ويتوسط في العبادات الجماعية كالحج وصوم شهر رمضان، في حين يتوسع في تفصيل الميراث والحقوق الزوجية وبعض الأحكام المرتبطة بالحقوق، وهذا يومئ إلى أن التفاصيل والقيود أكثر ما تطلب فيما يرتبط بالآخرين درءا للتنازع والخصومة والاختلاف، وتقليلها في العبادات من باب التوسعة فيها ورفع المشقة؛ فالخلاف عندها محمود. وفي سورة البقرة نفسها نجد كل هذا الاقتصار والتوسط والتفصيل، كما نجد الآية الأطول في القرآن تتحدث عن كتابة الديون وتوثيقها، في إشارة إلى أهمية التفاصيل وبيان الشروط والمواصفات في الحقوق المتبادلة والعقود. ومع ذلك لابد من مسك العصا من منتصفها، فلا تهمل في بيان الشروط والمواصفات التي تحتاج إليها فعليا، ولا تسهب في تفاصيل أو شروط لست محتاجا إليها قد تكلفك كثيرا. وفي العقود ينبغي أن تنتبه إلى الألفاظ الموضوعة وما قد تؤدي إليه. قبل فترة عرض علي أحد مراجعة عقد فنبهته إلى شرط وضعه بالعقد يظن فيه مصلحة له، وقلت: هذا الشرط قد يرتد عليكم ويكلفكم كثيرا في المستقبل، وما هي إلا فترة أشهر حتى عاد إلي مؤكدا وقوع ما حذرته منه!

  5- المعيار يربط زيادة التكلفة بزيادة التفاصيل عموما من شروط أو قيود، والجودة قيد منها، وبالتالي وجود الجودة يزيد من الكلفة ولا عكس، فقد تزيد الكلفة بقيود أو شروط أو تفاصيل أخرى غير الجودة. وهذا أمر مهم يغفل عنه كثير منا؛ إذ يتبادر إلى ذهنه كلما وجد سعراً عالياً أن جودته أفضل! وتنتشر بيننا أمثال تؤكد هذا المعنى: "ما يرخص إلا الرخيص"، و"الغالي قيمته فيه"، وهذه الأمور قد تكون مشاهدة وغالبة، لكنها لا تمثل معيارا؛ إذ قد ترتفع الكلفة لقلة المعروض وكثرة الطلب كما ارتفع ثمن البقرة لتفردها. وبناء على ذلك فقد ترتفع كلفة العلاج في المستشفيات الخاصة وكلفة التعليم في المدارس والكليات الخاصة لتفاصيل أخرى كتغطية مصروفاتها وإيجاراتها ورواتب موظفيها، وليس بالضرورة لجودة زائدة فيها، وإن كانت الجودة عاملا تنافسياً لجذب عملائها، وقد تدفع ثمنا زائدا لطعام أو لكوب قهوة أو عصير في مكان راق مقارنة بمكان آخر أقل رقياً أو إيجاراً، مع تماثل الجودة، وربما كانت أقل جودة أحياناً.

 نعود الآن إلى التساؤل السابق: هل هذا يعني أن الإنسان لا يطلب الأفضل أو الأجود؟  والجواب: لا بطبيعة الحال، بإمكان الإنسان أن يطلب الأفضل وأن يضيف ما يرى من شروط ومواصفات، ولكن بوعي ودراية، وعناية بأن ما ينفقه من مال يجد مقابلا له، ويمكن أن نستعين بضوابط ها هنا:

1- الضابط الأول: وجود القدرة المالية أو الميزانية المعقولة:

  إن وجدت القدرة المالية والميزانية المعتمدة أو المعدة للميزات والإضافات، فلا بأس حينها من طلب تلكم الميزات. فأصحاب الكهف مثلا قالوا: "فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه". لما أرادوا من الطعام أزكاه، قدموا ذكر الميزانية المعدة المناسبة لذلك وهي الورق أي الفضة. في حين إن أخوة يوسف لما لم يكن لديهم الثمن المناسب أو الميزانية المطلوبة علموا أن مقامهم ليس مقام الاشتراط وطلب الأفضل أو الأكمل وإنما مقام الضعيف الملتمس للزيادة فقالوا: "يأيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين" فميزانيتهم بضاعة مزجاة أي قليلة أو رديئة، وطلبوا كيلا وافيا من باب الإحسان لا من باب المقابلة والمعاوضة.

2- الضابط الثاني: وجود قيمة حقيقية مقابلة للكلفة:

  في المثال الذي ذكرته عن مشروع إقامة مرفق خاص بمكتب موظف بإحدى الوحدات الإدارية، لم تكن المشكلة في إيجاد الميزانية اللازمة للمشروع، لكن في ارتفاع التكلفة مقابل القيمة الحقيقية، فمن ناحية المواد المستخدمة للمشروع كانت قيمتها في السوق تقل بصورة كبيرة عن الكلفة، أما من ناحية القيمة المضافة:

أ- التنفيذ عن طريق شركة من الدرجة الممتازة: الواقع أن المشروع كان يسيراً خاليا من التعقيدات الإنشائية الكبيرة التي تتطلب تلكم الدرجة، فلو وسعت من دائرة التنافس للدرجات الأخرى مع مراجعة أعمال المقاول السابقة لانخفضت التكلفة بصورة كبيرة؛ إذ إن الشركات الممتازة ربما تأنف من التقدم لمشروع تراه صغيراً في حقها ما لم تكن القيمة المادية كبيرة ومغرية.

ب- عدم إزعاج الموظف صاحب المكتب في وقت الدوام الرسمي: لو أعطي الموظف إجازة مدفوعة الأجر إبان الإنشاء لربما لم تبلغ قيمة الإجازة إلا شيئاً يسيراً، أو النظر في نقل عمله إلى مكتب آخر بصورة مؤقتة إلى حين الانتهاء، أو في أضعف الأحوال تأجيل عملية الإنشاء إلى حين قيام الموظف بإجازته الاعتيادية.

 ومثل هذا الأمر ما ذكرته عن بعض الخدمات التي تصل إلى المنتفع بكلفة كبيرة مقارنة بالقيمة الحقيقية لتلكم الخدمات، فكل هذه الأمور بحاجة إلى مراجعة ونظر، لذا فإن من المهم بنظري اعتماد هذا المعيار في دوائر المشاريع والمناقصات للمراجعة والتدقيق في المصروفات وتكلفة المشاريع، وقيمتها الحقيقية في الواقع.

إن بقرة بني إسرائيل ارتفعت تكلفتها مقارنة بكونها صعبة القياد ولا ينتفع بها كثيرا "بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث".

3- الضابط الثالث: الاحتياج الملائم أو الموضع المناسب:

قد تكون الميزات جميلة ومناسبة وذات قيمة حقيقة مقابل الكلفة، ولكنها لا تناسب المقصود، أو في غير موضعها الملائم لها. فمثلا من يأتي بجهاز له قدرة على شرائه، وبه قيمة حقيقية مناسبة للكلفة، إلا أنه لا يريد استعمال تلك الخصائص الإضافية في ذلكم الجهاز، أو ليست من حاجته، أو اشترى الجهاز لمن لا يتقن استعمال تلكم الميزات، أو كان في مكان لا يمكن الانتفاع فيه من تلك الخدمات والميزات التي يقدمها الجهاز، فهنا لا تتحقق المنفعة فتصبح ثمة تكلفة كبيرة مقارنة بالهدف أو الحاجة.

ربما كانت أهم ميزة في بقرة بني إسرائيل في جلدها: "بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين"، وأيضاً "مسلمة لا شية فيها" فهو أصفر لا يخالطه أي شيء، مريح للنظر لكن هذه الميزة لا تحقق شيئاً في الهدف المراد: الذبح، فأول ما يزال منها بعد ذبحها جلدها!!

من رأيته يقتني شيئا لا يستعمله فقل له: هاهنا بقرة صفراء!

أو رأيته يأخذ فوق حاجته فقل له: هاهنا بقرة صفراء!

في إطار المشاريع من أراد ترميم بيت قديم لإعادة بيعه مثلا، فلا بد أن يضع تكلفة ملائمة لا يجاوزها حتى ولو كانت تضفي قيمة حقيقية في تفاصيلها؛ فإنها في النهاية لن تضفي قيمة كبيرة للمنزل، وبالتالي سيكون الإنفاق في غير محله. وكذا في كثير من المشروعات التجارية لا بد أن ينظر في مكانها وموقعها وتحديد ميزانية في ضوء ذلك.

كيف يمكن الإفادة من سر البقرة الذهبي لرخاء أكبر؟

1- استحضار هذا السر أو المعيار الذهبي ينتج تحكماً مالياً أكبر في النفقات والمصروفات ومراجعة قرارات الشراء والمشروعات، وبالتالي يوفر أموالا يمكن الانتفاع بها لأمور أخرى.

2- يمكن أيضاً الانتفاع من السر بجعله وسيلة للرزق والكسب:

يمكن للجهات العامة والخاصة المعنية بتقديم خدمات أو منتجات أن تقدم ميزات إضافية بتكلفة أكبر من الخدمات والمنتجات الأساسية.

فمثلا يمكن أن يتغير سعر الخدمة أو المنتج باشتراط الزمن أو السرعة فيه، أو بالانتقال إلى مقر طالب الخدمة، ويمكن للجهات العامة أن تفرق في حالات الإعفاء عن الرسوم بين الخدمات الأساسية والخدمات المضافة، فتعفى الأساسية دون المضافة. وهكذا.

ختاماً.. لم أرد استقصاء كل ما يتعلق بهذا السر العظيم إذ لا تكفيه هذه العجالة، كما لم أتناول بقية أسرار بقرة بني إسرائيل العظيمة التي إن اهتدينا بها نالنا منها خير كثير بإذن الله، وأسأل الله أن يكتب لي أن أحرر ذلك في كتاب مستقل في المستقبل القريب بعونه وفضله وتوفيقه.

تعليق عبر الفيس بوك