العرب والتكنولوجيا (3-3)

 

عبيدلي العبيدلي

يُواجه العرب اليوم تحديا مصيريا عند الحديث عن العلاقة المُتبادلة التي تربط بينهم والتكنولوجيا. ومصدر هذا التحدي هو أن ليس هناك من بوسعه أن ينكر أن هذه العلاقة اليوم غير قادرة، وليست مؤهلة لأن تضع العرب في مصاف الأمم التي نجحت في تطوير التكنولوجيا في بلدانها، بحيث تحولت إلى محرك أساسي من محركات تسيير المجتمع نحو الأفضل، من خلال "تطويع" التكنولوجيا لخدمة آلية السير في طريق بناء علاقة خلاقة بين العرب والتكنولوجيا.

ويُمكن تقسيم ردة الفعل العربية، عند من يُحاول من العرب رسم معالم مثل تلك العلاقة، إلى ثلاث فئات تميز الواحدة منهم نفسها عن الأخرى. وقبل رصد المعالم الرئيسية لكل فئة، ينبغي الاتفاق على أن واقع هذه العلاقة لم يصل بعد إلى المستوى الذي رقت إليه عند أمم أخرى، من بينها من ينتسب إلى بلدان فقيرة من الدول النامية، أو دول العالم الثالث، من أمثال الهند، ودول صغيرة من حجم كوريا الجنوبية وسنغافورة، ودول كبيرة من مستوى الصين.

هذا الأمر ينفي حق بلدان الغرب، أو قدرتها على احتكار التكنولوجيا، أو كون هذه الأخيرة حكرا على جنس مُعين دون غيره، أو حضارة محددة دون سواها.

وعند العودة إلى الفصائل الثلاث متميزة التي يحاول كل منها فهم هذه العلاقة، أو قراءة واقعها، سنجد أن الفصيل الأول يمكن وصفه بذلك المحبط، أو اليائس، وهو من يرى واقع تلك العلاقة، ومستقبلها من وراء نظارة سوداء، ومن ثم فهو لا يستطيع أن يبصر أي نور في نهاية النفق في الحاضر، وليس هناك، من وجهة نظر هذا الفصيل، بريق أمل يبعث التفاؤل ويبشر بمستقبل أفضل.

وهناك الفصيل الثاني الذي ما يزال يعيش في الماضي ولا يكف عن التشدق بأمجاد تاريخية تتحدث عن إنجازات العرب في التكنولوجيا في مرحلة تألق الحضارة العربية الإسلامية وازدهارها.. ويستعين هذا الفصيل بسرد أسماء قائمة عربية طويلة حققت ذلك في مراحل ازدهار الحضارة الإسلامية، من أمثل البيروني، وابن سيناء والخوارزمي، وقائمة لها بداية وليس لها نهاية.

كلتا النظريتين جافاهما الصواب. وليس في وسع أي منهما تشخيص واقع التكنولوجيا العربية بشكل علمي صحيح، كي يتمكن من تمزيق شرنقة التخلف الذي يحيط بهذا الواقع.

فالنظرة المغرقة في سوداويتها تصدر حكمًا بالإعدام على أي مشروع عربي يتوجه نحو التكنولوجيا في البلاد العربية من أجل توطينها أولاً، والارتقاء بواقعها ثانيا. ومن ثم فالمنتسبون لهذه المدرسة، مهما بلغ مستوى مشروعهم للنهوض بالتكنولوجيا العربية من واقعها الذي تعاني منه اليوم، لن يكونوا قادرين على تحقيق ذلك قبل تمردهم على فكر المدرسة التي ينتمون لها، والتي لا تكف عن شدهم نحو الأسفل، بإرث دوني تجاه الأمم المتقدمة، لن يمكنهم من وضع خطواتهم الأولى على درجات سلم الوصول إلى واقع أفضل.

ولن يختلف مصير مشروع المدرسة الثانية عن شقيقتها الأولى، فهي الأخرى ستكون ضحية إغراقها في التفاؤل المنطلق من حالة تباه مزيف يرتوي من أمجاد الماضي، وليس بين يديه ما يرشفه من حلول سليمة للحاضر. 

أي من المدرستين لن يكون بين يديه الخلطة الصحيحة إن جاز لنا القول القادرة على إيجاد واستخدام المُعادلة الصحيحة التي تنتشل واقع التكنولوجيا العربية من واقعها الراهن "المتخلف"، إلى آخر يضعها في مصاف الدول التي نجحت في الوصول إلى تلك المعدلة.

تبقى المدرسة الثالثة، والتي يُمكن وصفها بالبراغماتية، التي تحكمها ذهنية الاستعداد للاعتراف بالواقع غير المسر، دون الوقوع في براثن يأسه، وتطل على الماضي، دون أن تصبح ضحية سهلة للتشدق بأمجاده، وتتطلع من حواليها كي تدرس تجارب الآخرين الناجحة وتسير على خطاهم، دون مُحاكاة عمياء جامدة، ولا تأليه صنمي غير مجد.

نقطة الانطلاق ينبغي أن تكون من فوق منصة المدخل الحضاري، فكما يقول الكاتب، وهو محق فيما ذهب إليه، حامد الموصلي، "إنَّ التكنولوجيا (هي) أيضاً نتاج حضاري، وفي الوقت نفسه، أداة لإعادة إنتاج الحضارة، ولهذا فإنَّ الاستمرارية الحضارية -أي قدرة الحضارة على إعادة إنتاج نفسها والحفاظ على وجودها- رهن بالفعالية التكنولوجية. وكما أن ضمور القدرات التكنولوجية يؤدي إلى الاغتراب والاضمحلال الحضاري، فإنَّ الإبداع التكنولوجي الذاتي هو أحد الأدوات المهمة للتجدد الحضاري".

وفي هذا التوصيف الكثير من التشابه مع المنتسبين للمدرسة الثالثة. الذي يعزز من موقفهم، أيضًا، ما يدعو له الكاتب المتجدد جورج قرم، في محاضرة ألقاها بمقرّ أكاديمية المملكة المغربية بالرباط، كما نقل عنه الكاتب الصحفي محمد الراجي، الذي يجد أن تخلف العرب التكنولوجي، يعود إلى "غرقهم في رمال الإشكالية بين "الأصالة والحداثة، فأصبحوا اليوم، من الناحية الفكرية والفلسفية، ضحيّة هذه الإشكالية، التي أيْنما مرّتْ، في الدول والمجتمعات، سبّبت الفتَن".

ونجح  قرم  في  شرح ذلك من خلال عقد "مقارنة بيْن بُلدان متقدّمة، تجاوزت إشكالية الأصالة والحداثة، مثل اليابان، وبيْن الدّول العربية، قائلاً إنَّ ثمّة رابطا بيْن حالة التدمير الذاتي التي يرزح تحتَ وطأتها العرب، والضعف الذي أصابهم، والحروب الأهلية التي يُعانون من ويلاتها، من جهة، وبيْن الغوْص في هذه الإشكالية التي أدّتْ إلى حروب أهلية طاحنة في أوربا، خاصة روسيا، وفي الصين، بين أنصار الحداثة وأنصار الحفاظ على التراث، والعرب اليوم يعتقدون أنَّ الحلّ السحري لخَلاصهم هو إيجاد صيغة للتوفيق بين الحداثة والأصالة، لكنهم لا ينتبهون إلى أنَّ هذه الإشكالية عقيمة، ولا تؤدّي إلى أيّ نتيجة".

مسألة في غاية الأهمية جاءت في مُحاضرة القرم، هي اختلافه مع "فئة من المفكّرين العرب، المنتمين إلى الصفّ الحداثي، المطالبين بفصْل الدين عن السياسة، معتبرًا أنّ مسيرة أوربا مختلفة تماماً عن مسيرة العالم العربي في هذا المجال؛ ذلك أنَّ الكنيسة حينَ كانت باسطة سيْطرتها في أوروبا تحكّمت بشكل كامل ودقّقت كل أفعال وأعمال الإنسان الأوروبي، فتراجعت أوروبا وتخلّفتْ، بيْنما حدث العكس في الشرق، عندما ظهرت الرسالة النبوية".

تأسيسًا على ذلك، وكي تنجح المدرسة الثالثة من الترويج لما تدعو له، ينبغي لها أن تفتش، في ضوء ما أوردناه أعلاه، عن المدخل الحضاري، وليس التقني الذي بوسعها من خلاله انتشال العرب من واقعهم التكنولوجي، إلى ما هو أرقى.

وأي مدخل مخالف لذلك سيجد نفسه، بوعي أو بدون وعي يصب في خانة واحدة من المدرستين الأخريين، الذي من شأنه قيادة العرب نحو طريق مسدود.