فاطمة الحارثية
في بناء الأفراد والذين هم نواة الجماعة وأساس المُجتمعات، ينظر المؤسسون إليهم كاستثمار طويل الأجل، محدود العطاء، مما يُؤثر على أبعاد تصور وخطط واستراتيجيات التنفيذ المتقن لتحقق الغاية السامية وأهدافها طويلة الأجل والتي قد تستغرق عقوداً من الزمن، ويتم في الغالب تكريسهم كُلٌ حسب قدراته الفردية في التكامل الجماعي، ومدى مرونة تقبله واندماجه في تجسيد المهام في الغاية المحددة، ويُعد قوة الولاء وصرامة التجنيد شيء أساسي وضمان لاستمرار المسيرة، فكلما كان الولاء عظيماً والتكريس متقناً وصحيحاً كلما كان الهيكلة العامة للتنفيذيين أكثر قوة وتراصاً وديمومة للعمل والاستمرار وأيضا تشكيل الإرث الفكري والحضاري. ربما قد يخلق حديثي للبعض شعورا بعدم الراحة بحكم أنَّ الناس ليسوا أدوات، وخاصة من هم ضد الميكافيلية -وأنا معهم- حيث الغاية لا تبرر الوسيلة، لكن فقط لنكن واقعيين ولننظر للواقع بعيداً عن معتقد المثالية، فالمصير مشترك وبقاؤنا السليم يُعطي أملاً لمن بعدنا من ذريتنا، أيضاً القدرة على ولوج بوابة الحياة وإتمام مسيرة حضارتنا.
إننا نجد أن الثالوث المظلم هو الغالب إلى الآن على مستوى العالم في الآليات الإدارية، ربما لأن الفئات التي تمثلها حسب علم النفس يسهل إخضاعها وتجنيدها في الأعمال المبرمجة، أي أعمال التنفيذ وليس التفكير أو الابتكار؛ وفي الجانب الآخر نجد أن الرعوية لها أثر بالغ في نهضة الأمم، والموازنة بين الدعم والاعتماد الذاتي كمرحلة انتقالية في فترة البناء الأساسي للقيادة المجتمعية نحو التمكين والتطوير لهو أمر بالغ الأهمية، كما ولابد من رفع الرعوية والدعم بشكل تدريجي ليبدأ الأفراد والمجتمع بالبناء المؤسسي والاعتماد الذاتي للأخذ بزمام الأمور والانتقال إلى ما بعد الأساس، والتمثيل المُشرف لحضارة راسخة مكتملة العمران.
إذا تصورنا نموذج استثمار الأفراد نجد أنَّ السلسلة العامة تكمن بين إدراك مفهوم ونظام الرعوية ومفاهيم النضج سواء الفكري أو الاجتماعي أو المؤسسي لدى القائمين على هيكلة وتوجيه أفراد المجتمع، وفي الغالب نعلم أنَّ الإدراك والنضج مرتبط بالحاجة لدى كل فرد ومحيطه، وأيضاً ما قد رسخ في ذهنه كتعريف للعصامية ضد الإتكالية وكيفية إثبات الذات، وهنا نجد التباين والاختلاف في ذلك بشكل ملحوظ ومؤثر وغير متوازن، فالانفتاح على العالم والعولمة خلق حاجات جديدة وفي تغير مستمر قد لا تكون أساسية لكنها ملحة لدى البعض وهذا يُعيد تشكيل الثقافة العامة ومفاهيم "الحاجة" التي قد لا تتوافق مع أساسيات البقاء الحقيقية.
الرهان يكمن في التعليم والثقافة والتربية قبلهما، وما نغرسه في جيل اليوم هو ما سوف نحصد في القادم من الوقت، إنَّ المعطيات الظاهرة لدى صغار السن اليوم ليست بتجليات ما كانت لدى صغار الأمس، وغياهب الإنترنت ومشتقاته من منصات التواصل الاجتماعي والصفحات المعلوماتية كلها تسقي عقولهم الفوضى حتى لا يكاد الواحد منهم يجد ما يستند إليه ليميز بين الغث والثمين والحقيقي، والحال ظاهر في فوضى القيم والمبادئ والأخلاق.
إنَّ الأخذ بيد الناشئة أمر مهم في خارطة بقائنا الحضاري، ولا يمكن الاعتماد على مؤسسة دون أخرى أو غرس ثقافة موحدة؛ كما وأن استيراد نماذج تربوية نبث من خلالها مفاهيم لم تمر بتجربة الاعتماد على ذاتها أو فعاليتها في بيئتنا لهو تعقيد آخر، فالدول الغربية التي بات يُتخذ منها أمثلة تطبيقية تسري فيها قوانين الاعتماد الصرفي والعملي وهذا يتناسب مع سُبل وطرق التنمية المؤسسية لديهم وتم اعتمادها بناءً على تجاربهم وما يناسب بيئتهم وثقافتهم وتشريعاتهم، أما هنا ونحن مازلنا في حضانة الرعوية فيصعب تحقيق ذلك لما فيه من تكلفة لا تحتمل عدم الالتزام والتقدير، أضف إلى ذلك حجم تلك المصروفات الباهظة على الموازنة.
جسر...
إنَّ صوت المطالبة بالامتثال والأخذ من حضارة الدول الغربية في ازدياد، حتى بلغ لدى البعض طلب تطبيق قوانينهم التجارية والتربوية وغيرها، في المقابل لا نجد في تلك الطلبات ما يرفع مسؤولية الدعم والصرف الحكومي في التعليم والصحة وغيرها على سبيل الاقتداء بتلك الدول في كافة الأصعدة إذا ما أيدنا تلك المطالبات.
إن كنَّا نطالب الاقتداء أسوة بما تحقق للغرب وجب أيضًا أن نخوض التجربة كاملة وأن يتم رفع الدعم والرعوية في كل شيء، فهل نحن كأفراد ومجتمع ومؤسسات صغيرة كانت أم كبيرة مستعدون لتحمل تلك المسؤوليات؟