هل يتقاعد أصحاب الرسالة؟

مدرين المكتومية

لا رَيْبَ أنَّ الأوامر السامية لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- والمتعلقة بتقاعد عدد من الموظفين في مؤسسات الدولة، تحمل الكثير من الإيجابيات، خاصة فيما يتعلَّق بتجديد الدماء وتدرُّج الكوادر الوطنية في مختلف الدرجات الوظيفية، ومن ثمَّ تعيين مواطنين جدد.

ورغم ما حَظِي به هذا الموضوع من جدال وسجال داخل مختلف الأوساط المجتمعية، خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، وعبر مقالات الرأي في كل منبر إعلامي، إلا أنَّ ثمة جانبًا لم يتطرق إليه الكثيرون، ألا وهي القطاعات التي لا يجب أن تفقد قُدَامى موظفيها، وأصحاب الخبرات الطويلة، بل بالأحرى أصحاب الرسالة، كل في تخصصه. فهم ليسوا بأي حال من الأحوال عبئا إداريا أو ترهلًا إداريًّا في تلك القطاعات، وأسوق أمثلة على ذلك بقطاعات التعليم والطب والهندسة والقضاء، وهي قطاعات حيوية للغاية في مستقبل التنمية.

فهُناك تخصُّصات لا يتقاعد منتسبوها، وكل فرد فيها يقدم خدمة مختلفة بل ومتميزة، وكل من يعمل فيها يملكون من الخبرات المتراكمة ما يُمكنهم من مواصلة العمل بروح الشباب، لاسيما وأنَّ هذه الخبرات ليست بالمئات، لكنها بالعشرات في تخصصاتها. لذا؛ من الأهمية بمكان الإبقاء على هذه الخبرات الفنية، التي تملك القدرة على مواصلة العطاء، ونقل خبراتها إلى غيرها، خاصة بين الشباب. فمن الذي سيقدم التدريب والتأهيل اللازميْن لشبابنا المعينين حديثا؟ ومن سيعرِّف هؤلاء الشباب بالإجراءات اللازم اتخاذها في مواقف الأزمات، سوى الذين عاصروا أزمات من قبل؟!

كبار الموظفين في قطاعات التعليم والهندسة والطب والقضاء، هم المرجع الأساسي لمن سيشغل وظائف جديدة، ومن هنا لزم على الجهات المعنية الالتفات لهذا الأمر، ففضلا عن أنَّ نقل الخبرة من خلال الاحتكاك المباشر بأصحاب الخبرات أسرع وأفضل من نقلها عبر الدورات التدريبية التي تكون في أغلبها متوسطة الفائدة، فإنَّ توفير تكاليف هذه الدورات التدريبية من خلال الإبقاء على كبار الموظفين بدلا من إحالتهم للتقاعد، سيحقق النفع العام، ويوفر النفقات على المؤسسات، لاسيما وأن ميزانيات الوزارات بالفعل تم تقليصها بنسبة 10%.

إنَّنا عندما ننظر للقطاعات المهمة؛ مثل: قطاع الطب والرعاية الصحية والقطاع الأكاديمي، نجد أنَّ معدلات التعمين متراجعة، ومن ثمَّ الحفاظ على الكادر الوطني يُمثِّل ضرورة وأهمية لا غنى عنها. وكذلك الحال بالنسبة لباقي التخصصات، وبالتالي فإن إعادة النظر في تقاعد أصحاب الخبرات الحيوية واجب وطني قبل أن يكون ضرورة ملحة، خاصة في قطاع الصحة؛ كونه الآن القطاع الأكثر أهمية في العالم، وليس في السلطنة وحسب، بسبب تفشِّي جائحة كورونا "كوفيد 19" والتي ضغطت بصورة غير مسبوقة على أنظمة القطاع الصحي، وبات الحفاظ على الكوادر أمرا حتميا، وثمة حاجة ملحة للحفاظ على كافة الطواقم الطبية بمختلف مسمياتها، إذ إنَّ هذه الأزمات تظهر مدى احتياجنا لأصحاب الخبرات الكبيرة والمخضرمين.

ومن هنا، يجب العمل على المحافظة على هذه الكوادر الوطنية، وتحقيق الاستفادة القصوى منها، فعندما تذهب إلى لندن أو باريس أو نيويورك، تجد الخبرات والكفاءات الوطنية تتصدَّر المشهد، حتى ولو كان عمرها 75 عاما، فكم من طبيب أو قاضٍ أو أكاديمي أو معلم في مدرسة، يواصل أداء رسالته وهو يحتفل بعيد ميلاده الخامس والستين مثلا، أو حتى السبعين؟! إنهم كثر حول العالم، لأنهم يدركون جيدا دور هؤلاء الخبراء وفاعلية أدائهم، ويقدرون للغاية نبل رسالتهم وديمومتها، طالما كانوا قادرين من الناحية الصحية والعقلية على العمل والتفاني فيه.

إنَّنِي أناشِد كلَّ مُؤسسة وكل مسؤول في وطني الحبيب، أنْ يُفِّكر مليًّا قبل أن يوقع على قرار إحالة أصحاب الخبرات في القطاعات التي أشرت إليها آنفا، وعليهم أن يتأملوا المشهد في غيابهم، نعم نُدرك أن العمل لا يقف عند موظف بعينه، لكننا هنا لا نتحدث عن توقف الأعمال، بل نُشير إلى كفاءة الأعمال، فهل إحالة قدامى الموظفين إلى التقاعد سيضمن الكفاءة في الأعمال والخدمات، خاصة في القطاعات الحيوية؟ أشك!