سفينتنا الاجتماعية التي نتشارك في الإبحار بها

 

د. عبدالله باحجاج

بَدَا لنا واضحًا أنَّ هناك قُصُورا في فهم دور الكاتب الصحفي خاصة، والصحافة عامة، عند بعض المثقفين -وهم قِلَّة- ممَّن نجدهم يقفون ضد مهمة النقد، ويطالبون بمنظور أحادي يميني (مع أو ضد)، وهذا نهج يبدو أنَّه متأثرٌ ببعض ممارسات السياسة الدولية المعاصرة، فهو يرى أن التحولات التي تشهدها حقبتنا السياسية الجديدة تستوجب حصريا تعزيزها مهما كانت لها انعكاسات سلبية، وهذا مفهوم بعيد عن مهنة الصحافة.. لكن، يُعذر أصحابه لحسن نيَّتهم وعواطفهم الوطنية، وانبهارهم بالخطوات الأولى المهمة لنهضة عُمان المتجددة.

وهي انبهارات تشدُّ كل مواطن، وتجعله مشدودا للمستقبل، ويتأمَّل في انعكاس نتائجها عليه وعلى المجتمع والدولة في عمومها، ومن المعلوم أنَّ التحولات مرتبطة بالإستراتيجيات كمرجعية للتنفيذ، وحاكمها المحددات السياسية التي كشف عنها قائد نهضتنا المجددة حَضْرة صَاحِب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- في خطاب توليه العرش.

من هنا، تأتِي أهمية المؤسسات الرقابية في الدولة؛ ومن أبرزها: الصحافة، التي تُؤسِّس لنفسها ممارسة مهنية في مرحلة النزاهة والرقابة والمساءلة والمحاكمة، التي يجعلها عاهل البلاد عنوانا أساسيا لعهده الجديد، فدورها التنبيه والتحذير، وكشف نقاط الضعف التنفيذية واختلالاتها، أو التركيز على الانعكاسات السلبية لبعض التحولات والمسارات الجديدة لدواعي استدراك السلبيات أثناء المسير، حتى لا نتركها في إحدى محطاتها وتذهب دونها، مما قد يُشكل منغصات أو معرقلات ظرفية قد تتحوَّل إلى استدامة، ومن ثمَّ تتشكل بألوان سياسية أو أيديولوجية أو تتقاطع معها أجندات إقليمية.

وهنا.. يأتي دور النقد الإيجابي في صوره المختلفة التي تعزِّز البناء ولا تهدمه، وهذه مسألة توضيحية أردنا التذكير بها لرفع الوعي المهني للصحافة الوطنية الملتزمة بدعم مسيرة النهضة المتجددة من زوايا تركيزها على الانعكاسات السلبية لدواعي معالجتها.

وفي هذه المرحلة الوطنية، كلُّ التوقعات مفتوحة لإصلاح الحقل السياسي -كفاعلين ومؤسسات- ومؤشراتها تكمن في إقامة المكتب الخاص تابعا للمؤسسة السلطانية، وإنشاء جهاز للاستثمار لتوحيد مؤسسات الاستثمار، وجعلها تابعة لمجلس الوزراء، وكذلك جعل ثلاثة من أهم المؤسسات في عصر النهضة المتجددة تحت مظلة المؤسسة السلطانية مباشرة، وهي الأمن الداخلي وجهاز الرقابة المالية والإدارية إضافة إلى المكتب الخاص، وهذا يعزز من مكانة المؤسسة السلطانية وديناميكيتها في مسيرة تحقيق النهضة المتجددة.

لن نستبعد أيَّ مسار من التحديث أو التجديد، ونتوقع حدوثه قبل تطبيق رؤية "عمان 2040"، لذلك سُميت نهضة متجددة، أي استمرارية لنهضة المؤسِّس، لكن من روح التجديد والتحديث لكي تصنع لنا مجتمعًا قويًّا ومتماسكًا ومتفاعلًا مع الثورة الصناعية الخامسة، واقتصادًا إنتاجيًّا تنافسيًّا متعددَ المصادر، ونظامًا إداريًّا ينطلق من تطوير نظام المحافظات، وتشاركًا متضامنًا ومسؤولًا في اتخاذ القرار الوطني.

والذي يشغلنا هنا كثيرًا من منظورنا المهني سالف الذكر، هو انعكاس بعض المبادرات على المجتمع، خاصة في الآجال الزمنية القصيرة والمتوسطة. ومن هنا، فإنَّ تساؤلا مُلحًّا لابد أن يُطرح الآن، وهو: هل لدينا خارطة استشرافية بالآثار السلبية للتحولات أو المتغييرات التي تمس المنطقة الاجتماعية؟ إذ لا يُمكن أن تكون الحالة الاجتماعية بمثابة حلقة غائبة أو قد يعتبرها البعض ضريبة التحولات، ويتمُّ التسليم بها، وهذه براجماتية لا تصلح لبلد يشعر بثقله الاجتماعي التاريخي، ويراهن عليه -أي هذا الثقل- في مُواجهة تحديات داخلية وخارجية، بل هو مناط أية شرعية سياسية.

لذلك؛ يجب أن تكون الحالة الاجتماعية عملية متزامنة مع صيرورة التحولات، وليست منفصلة عنها؛ حيث تتمُّ دراسة تأثيرات التحولات والتغييرات على المجتمع أولا بأول -قبلية وبعدية- بهدف حماية السفينة الاجتماعية التي نتشارك فيها جمعيًا، وعدم ترك السلبيات الناتجة عن المسارات الجديدة أن تخرق جدارها...إلخ، وهذا يُشكل لنا هاجسا مرتفعا ومقلقا نتصدَّى له بصوت مرتفع لتموقعنا الاجتماعي الذي يُتيح لنا المعرفة الميدانية المباشرة للآثار السلبية على قاعدة كبيرة وعريضة من المجتمع.

وأهميَّة حصانة السفينة الاجتماعية ومناعتها خلال مسيرة تأسيس النهضة المتجددة، توازي الاهتمام بالمستقبل ومآلاته الجديدة؛ فهذه الأخيرة بمثابة بحور ينبغي الأخذ بعين الاعتبار مدى قدرة السفينة الاجتماعية بكاملها على الإبحار فيها، ليس كمُعرقل للتطورات والتحولات، وإنما من حيث معالجة الآثار الناجمة عن التحولات عليها فورا. ولو توقفنا عند مسار التقاعد الإلزامي الفجائي؛ فالتساؤل المنهجي يطرح هنا عن آثاره السلبية المتوقعة؟ وكيف يُمكن تفاديها؟ وهذه الآثار لا ينظر إليها كجُزُر منعزلة عن خلفياتها السابقة، وإنما من ضمن سياقاتها التراكمية والرؤى المستقبلية.

فهذا التقاعد بماهياته ومظاهره المثيرة للجدل، الكلُّ ينبغي عليه التسليم بأضراره الاجتماعية ليس فقط من حيث راتب التقاعد الضعيف غالبًا، أو مكافأة ما بعد الخدمة التي تشطر مفهوم المواطنة الواحدة والمتساوية، وإنما بصورة أشمل من حيث تداعيات السياسة المالية والضريبية التي تتبناها الحكومة منذ منتصف العام 2014، والتي أنتجت منظومة مُعقَّدة للضرائب ورفعت بعض الدعم الحكومي عن الخدمات التي تقدم للمجتمع في ظل أنَّ هذا الراتب يعول عليه كيانات أخرى متضامنة كالباحثين عن عمل أو عليه التزامات بنكية...إلخ.

ولن ننسى أنَّ التقاعد الإجباري كان مُفاجئا، ويمس خطط الأسر التي رتبت أوضاعها على تقاعد مُقنَّن ومُحدَّد بسنوات معروفة للكل، وأي مساس به يستلزم التعويض والتحفيز مراعاة لمثل تلكم الأبعاد. فكيف لنا تصوُّر الأوضاع الاجتماعية دون تدخل السياسة المالية لمعالجة آثار التقاعد الإلزامي. وهنا تساؤل استشرافي، وهو: إذا لم تُعالج الآثار وتحميل المجتمع ضرائب جديدة، كضريبة القيمة المضافة مثلا، وإذا لم تكن معالجتنا لقضية الباحثين عن عمل بالسرعة والكمية العددية التي تفرغ القضية من احتقاناتها، فكيف ستبحر سفينتنا الاجتماعية بثقل اجتماعي صلب؟ أو كيف ستمضي قُدما وتترك وراءها إشكاليات كبيرة؟!

لذلك؛ نقترح أن تتم دراسة انعكاسات التحولات والمسارات على المجتمع؛ بحيث يكون هذا نهجا مؤسسيا يتزامن مع مراحل الانتقال إلى النهضة المتجددة، وهذه شرعية ينبغي التسليم بها، وهى تخرج من رحم الوعي السياسي وتحتمها مشروعات التجديد والتحديث القائمة على شرعيات الفعل المجرد والإنجاز العقلاني الذي تستوجبه النهضة العمانية المتجددة، لكن دون إغفال شرعية أو مشروعية الاعتداد بانعكاساتها الاجتماعية.

ومن هنا، تنبع أهمية وجود كيان متخصص وتابع للمؤسسة السلطانية مباشرة، على غرار اللجنة التي أعلن عنها المكتب الخاص بناءً على الأوامر السامية، لتكون مُنبثقة عن اللجنة العليا المكلفة ببحث آلية التعامل مع التطورات الناتجة عن انتشار فيروس كورونا. الكيان الجديد الذي نقترح إنشاءه ستكون مهمته دراسة الآثار الاجتماعية السلبية لكل مسار أو تحول عند تطبيقه أو قبل تطبيقه، ورفعها مباشرة لعاهل البلاد المفدى -حفظه الله- لتداركها فورًا، حتى نضمن اندماج الكل في مسيرة النهضة المتجددة، دون التقليل من ضحايا الانعكاسات أو تهميشهم مهما كانت المبررات.