الرد على "انعزالية" السياسة الخارجية للسلطنة

د. عيد بن مبارك العريمي

Eid62.aloraimi@gmail.com

ينتقدُ بعضُهم السياسة الخارجية العُمانية، والمواقف العُمانية تجاه بعض الأحداث الإقليمية والعالمية، ويصفها بصفات من قبيل "الغموض" و"السلبية"، وكان آخر هذه الصفات ما حمله مؤخرا عنوان كتاب "سلطنة عُمان ما بين الانعزالية المتطرفة والحيادية المتطرفة" للكاتب السعودي خالد الزعتر!

في تقديري أن غالب الذين ينتقدون السياسة الخارجية العُمانية يسيئون فهمها بحسن نية أو تعمدا! يسيئون فهمها عندما يفترضون أن تكون مثالية دائما تنطلق من "واقعهم" وليس "واقعها"! وأن تقاس بمنطلقاتهم وليس بمنطلقاتها! ومن الأمور التي لا يُمكن الاختلاف عليها أن غالب التصرفات السياسية هي احتمالات وليست مُسلَّمات أو حقائق مُطلقة؛ فالسياسة كما عرَّفها السياسيون الواقعيون هي "فن الممكن"؛ بمعنى دراسة وتغيير الواقع السياسي بصورة موضوعية، بمعنى أن نقوم بما هو ممكن وأن لا نتجاوز "الواقع" حتى لا نبني ولا نتخذ خططا ومواقف غير واقعية لا يمكن تحقيقها، وينبغي لهذه الموضوعية ألا تشُوبها نظرة ضيقة ولا تحيُّز، وفي الوقت ذاته ينبغي لها أن تكون مُتجرِّدة من النظرة الذاتية البحتة، مع إدراك لأنَّ اتخاذ أي قرار سياسي مهما كان وقته أو مكانه أو أهميته أو ظروفه، فإنه يلغي احتمالات قائمة ويخلق احتمالات جديدة، فالسياسة هي بالنهاية صراع إرادات ورؤى وتوجهات ومواقف وموازنات وليست تبعية مطلقة!

فالواقعية السياسية بهذا المعنى ليست القبول بكل ما يعرضه الآخرون ويقررونه من مواقف حسب واقعهم وموازناتهم وآرائهم وإراداتهم الخاصة، بل هي النظر المتبصِّر في الإمكانيات الخاصة التي يختزنها "الواقع" الخاص لكل طرف، خلف ما يظهر على السطح الخارجي من تصرفات، والتصرفات السياسية لو كانت مسلمات أو حقائق مطلقة وتبعية وقبولًا لما يقوله ويقرره الآخرون، لما احتاجت لدراسة ونظر، ولما كانت هناك اختلافات تترتب عليها أزمات وحروب، ولكن كما قال الإمام الشافعي -رحمه الله: "رأيي صَوابٌ يَحتَمِلُ الخَطأ، ورأيُ غَيري خَطأ يَحتَمِلُ الصَّوابَ". الإمام الشافعي هنا لا يتحدث عن المسلمات والحقائق التي لا يختلف عليها ولا فيها أحد، والتي قال عنها الشاعر:

وليسَ يَصِحُّ في الأفهامِ شَيءٌ...

إذا احتاج النهارُ إلى دليل

لكنه يتحدث عن الأمور والقضايا التي يتطرق إليها الاحتمال، والتي يُمكن أن تتعدد فيها الآراء وتختلف فيها الرؤى؛ وذلك بعد أن يجتهد الإنسان في البحث فيها، والنظر في كافة الآراء الأخرى ومِن ثَمّ لا يرى إلا رأيًا واحداً أقرب للصواب؛ لأنه يتناسب مع "واقعه" وأسسه وثوابته، وليس بالضرورة أن تكون آراء الآخرين خاطئة أو "غامضة" أو "سلبية" أو"متطرفة"، وبهذا فإنَّ وجود أكثر من وجهة نظر أو رأي حول الموضوع الواحد لا يمكن تفسيره على أنه حالة "غموض" و"سلبية" و"تطرف"، بل العكس من ذلك فإنها حالة إيجابية ومفيدة لابد منها في أي نقاش يجري بين مجموعة من الأفراد؛ لِمَا في ذلك من فوائد كثيرة وكبيرة، فأعقل الناس من جمع إلى عقله عقول الآخرين، فيستفيد المرء من تلك الآراء والمناقشات التي تدعم رأيه وتنصره وتكون دافعاً له للاعتداد برأيه وعدم الحياد عنه، أو قد تكون مُتضاربة ومختلفة مع رأيه ومخالفة لوجهة نظره، وفي هذه الحالة يستفيد أيضاً من تلك الآراء في تصحيح بعض آرائه وأفكاره الخاطئة إذا كانت آراء الآخرين وأفكارهم أشمل وأعمق وأدق من آرائه ووجهة نظره، وذلك بعد اقتناعه واعتقاده شخصيًّا بها؛ ففي نهاية المطاف لابد أن يصل كلٌّ من طرفي النقاش إلى محصلة نهائية يتفقون بها ومحطة نهائية يقفون عندها.

ولكن هذا ليس شرطا أو قاعدة في كل نقاش، فقد يكون هناك أكثر من رأي، وكل رأي من هذه الآراء صحيح ومنطقي، مع أنها قد تكون متضادة ومتضاربة في الوقت نفسه، وتفسير ذلك أن هذا الرأي المعين قد ينفع لـ"واقع" وموقف معين، ولا ينفع ويصح لـ"واقع" وموقف وظرف آخر، وهكذا فإنَّ النظر إلى المسألة الواحدة قد يكون من زوايا وجوانب متعددة، وكلها صحيحة ومنطقية، سواء كانت متفقة مع بعضها أو متضادة ومتضاربة، والذي يحكم صحتها وصوابها في نهاية المطاف هو الظرف أو الزمان أو المكان أو غير ذلك من العوامل المختلفة، فالإمام الشافعي تغيرت عنده كثير من الأحكام عندما سافر من العراق إلى مصر، وهذا التغيير لا بد له من دوافع ينبغي دراستها وبيان الأسباب التي من أجلها تتغيَّر الأحكام بتغير الزمان والمكان والظرف والواقع.

وبهذا؛ لايمكن لأحد أن يدَّعي أنه يمتلك حقيقة مطلقة ينبغي لغيره أن يلتزم بها، ويتبعه فيها، لأنَّه لا توجد حقائق مطلقة من صنع البشر، وكل ما هو حقيقة في نظرهم هو من صنيع وعيهم وظروفهم وواقعهم، وهي أمور نسبية، والحاصل أن الحقيقة التي يفرزها وعي الناس ما هي إلا نتيجة لمجموعة من المعطيات الظرفية التي توفر عليها وعيهم وواقعهم وتفاعلهم معها، وبالتالي فإن الحقيقة هي حقيقة في إطار مرجعها ومصدرها: الوعي والظرف و"الواقع" والأسس والثوابت، وهي متغيرة بحسب التصور عن النفس: الإمكانيات والقدرات، وعن العالم الخارجي: الأحداث والوقائع المتجددة؛ والأمر هنا ليس أكثر من مقاربة لما نعتقده حقيقة؛ لأنه حين تتوافر معطيات وظروف ووقائع جديدة، فإنَّ هناك حقائق جديدة تطفو على السطح.

ومن هنا، يُمكن القول بأنَّ السياسة العُمانية لها وعيها، ولها ظرفها، ولها أسسها، ولها ثوابتها، ولها "واقعها"! ولو وعى الذين ينتقدونها لحظة أن رأيهم صواب يحتمل الخطأ، وليس حقائق ومسلمات يتوجب على الآخرين الالتزام بها، لما اتهموا أبدا من يختلف معهم بـ"الغموض" و"السلبية" و"التطرف"، ولما أساءوا الظن بهم، ولما تدخلوا في نيتهم بسوء.. ومن الخطأ الفادح أن يرى الإنسان لكل أمر رؤية واحدة، هي نفس الرؤية التي يريدها ويؤمن بها فقط، ولا يتقبل أية وجهة نظر أخرى!

إنَّ وقوع الاختلاف بين الناس أمر قدري كوني، قال تعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَوالخلاف أمر متوقع لا غرابة فيه؛ كون الناس متباينين في قدراتهم وعقولهم وأفهامهم ووقائعهم، وإن الاختلاف في الرؤى لا يمنع التعاون والعلاقة الطيبة وحسن الظن، والأفضل عند اختلاف الرؤى والآراء أن يعذر بعضنا بعضا في الاجتهادات، وأن يرفق بعضنا ببعض، وأن يراعي بعضنا مصالح بعض. يقول يونس الصدفي -رحمه الله- وهو أحد تلاميذ الإمام الشافعي -رحمه الله: "ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيته فأخذ بيدي ثم قال: "يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة.. يا يونس، تجمعنا مئاتُ المسائل وتُفرِّقنا مسألةٌ! يا أبا موسى، لا تحاول الانتصار في كل الاختلافات؛ فأحيانًا كسب القلوب أَولى من كسب المواقف، يا أبا موسى، لا تهدم الجسور التي بنيتَها وعبرتها، فربما تحتاجها للعودة يومًا ما، اكْرَه الخطأ دائمًا، ولا تكره المُخطئ، يا أبا موسى، انتقد القول لكن احترم القائل، فإنَّ مهمتنا أن نقضي على المرض، لا على المريض".

ولقد أسَّس باني نهضة عُمان الحديثة جلالة السلطان قابوس بن سعيد -رحمه الله وطيب ثراه- السياسة الخارجية لسلطنة عُمان على هذه المعاني والثوابت؛ وذلك كما جاء في خطابه بمناسبة العيد الوطني السادس والعشرين بقوله: ".. وليس بجديد أن نقول إنَّ دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية تبذل قُصارى جهدها في هذا الاتجاه، من أجل المحافظة على المنجزات الكبيرة التي حققتها خلال الحقبة الماضية. ومما لا شك فيه أنَّ بناء الثقة بين دول المجلس، وعدم السماح لاختلاف وجهات النظر الذي قد يحدث من حين لآخر، أن يحيد بها عن أهدافها الكبرى في الاستقرار، والتكامل الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، يعُدان من أهم العوامل في ترسيخ دعائم الأمن والطمأنينة، وفي استمرار النمو والتطور في هذه الدول، كما أن تشابك مصالح أبنائها من شأنه توثيق عُرى الأخوة فيما بينهم، وتقوية روابط التعاون والتساند والتعاضد التي تدعو إليها جملة من الحقائق التي تجمعهم وهي أواصر العقيدة، ووشائج القربى والرحم، وروابط الجوار والمصالح المشتركة".

كما أكَّد جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- في خطابه السامي على المضي والاستمرار على هذا النهج بقوله: "لقد عرف العالم عُمان عبر تاريخها العريق والمشرِّف، کیانا حضاريا فاعلا، ومؤثرا في نماء المنطقة وازدهارها، واستتباب الأمن والسلام فيها، تتناوب الأجيال على إعلاء رايتها، وتحرص على أن تظل رسالة عُمان للسلام تجوب العالم، حاملة إرثا عظيما، وغاياتٍ سامية، تبني ولا تهدم، وتقرب ولا تباعد، وهذا ما سنحرص على استمراره، معكم وبكم، لنؤدي جميعا بكل عزم وإصرار دورنا الحضاري وأمانتنا التاريخية. إنَّ العقود الخمسة الماضية شهدت تحولا كبيرا في بناء الدولة العصرية، وتهيئة البنى الأساسية الحديثة والمتطورة في كافة ربوع الوطن، بقيادة باني عُمان الحديثة، المغفور له -بإذن الله- جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور -طيب الله ثراه- وبجهود المخلصين من أبناء عُمان الذين نسجِّل لهم كل التقدير والإجلال على ما بذلوا من أجل رفعة عُمان، وإعلاء شأنها".

 

* دكتوراة في الدراسات الإسلامية

تعليق عبر الفيس بوك