مواسم الهجرة ودروب الشتات

 

◄ الأجساد المهاجرة ليست في كامل عافيتها ولا عنفوانها بل شاخت وهرمت وباتت في الردح الأخير من العمر

علي بن سالم كفيتان

عادت الطيور المُهاجرة منذ فجر السبعين إلى أعشاشها المهدمة منهكة من دروب الشتات التي أخذت معها آمال وطموحات، وأنبتت حركات وثورات فطويت صفحات وفتحت صفحات ملئها الأمل، فتقاطر الجميع حازمًا أمتعته من مختلف بلاد الدنيا؛ منهم من عاد وحيدًا وآخر مع أسرته يلمها، كما تفعل الطيور، عائدون إلى وطن جديد نفض غباره بالأمس وبات يستجدي أبناءه للعودة من أجل البناء والتنمية، فلبى الجميع وعادوا ليجدوا بلدا ينتفض وسلطانا يمد يده للجميع، ليجبر كسرهم ويجمع شتاتهم، ففتحت السجون على مصراعيها، وأُقفلت ملفات مثقلة بالكفاح والألم معاً، فرحم الله من احتوى كل هذا وظل عليه نصف قرن من الزمن.

لا أدري ماذا أقول؟ لكنني أرى أناساً تحزم حقائبها مُجددا للهجرة والعودة إلى مواطن الشتات تدفعهم آمال لم تكتمل ونهايات حزينة ومؤلمة تمَّ اقتطاعها من سجل البدايات الطامحة فلم تحقق أحلام ولكنها كانت مجرد أهداف لحياة كريمة لم يكتب لها الكمال... من باتوا اليوم يفكرون بطريق الهجرة رغم ألم نهايات العمر من أمراض وديون نجدهم ليسوا من الذين مدوا أيديهم للمال العام، كان يكفيهم راتب الوظيفة وهمها واحترقوا طوال 30 عاماً ونيف، لبناء المدن وتعليم الأبناء وجبر كسر الآباء الذين عاشوا سنوات الكد والشقاء لا أظن أنهم حققوا أحلاما، لكنهم كانوا ينتظرون نهايات طبيعية لم تحدث، لذلك حزموا أمتعتهم وبدأوا يفكرون في أصدقاء آبائهم المُهاجرين الأوائل إلى الخليج والهند والساحل الأفريقي، وربما أوطان أخرى كان قد جابها الأوائل بحثاً عن لقمة العيش التي شحت عليهم في أوطانهم فخيار الهجرة يلوح في الأفق من جديد وبات هو الخيار الوحيد قبل المُلاحقات القانونية للبنوك وشركات التمويل.

لا يُمكن بناء وطن على أشلاء مواطن... فالأب سيُهاجر أو يموت قهرا والابن يقبع في الطابور ليحصل على وظيفة أبيه... ليس هذا هو الحل الأمثل وليست هذه هي النهايات السعيدة ولا الطموحات البعيدة... لقد سقط المتاع من ظهر القافلة وباتت العير تركض حرة طليقة في تيه الصحراء باحثة عن ماء أو كلأ في هذا الفضاء الواسع حتماً ستجد ولكنها ستصل منهكة ولن يسمح لها بالرعي بحرية كما كانت في مضاربها... ربما كُتب عليهم ما كُتب على آبائهم فقد غادروا الدنيا محاطين بالجهل ليس لذنب اقترفوه بل لظلم حاق بهم فغيبت أجيال في أتون الفقر والأمية وعندما عاد الأمل انطفأ سريعًا.

رحم الله الطيب صالح الذي خلد هجرته إلى الشمال ورغم بعد البون الزمني بين ذكرى الطيب صالح واليوم إلا أننا سنعاود البحث عن الفرضة (الميناء) ورخصة الوالي، وسنخوض البحر مجدداً مع النوخذة الصوري ليقذفنا على سواحل أخرى ربما نجد فيها رزقاً كما فعل الآباء والأجداد لكن الأجساد المُهاجرة ليست في كامل عافيتها ولا عنفوانها بل شاخت وهرمت وباتت في الردح الأخير من العمر فما عساها تعمل في المهجر؟

سنحب وطننا وسنعود إليه عندما يحتاج إلينا، لن نستسلم لانكسار المرحلة فقد تعودنا على جبر الكسور ومعالجة الجروح العميقة لدينا يقين بأن جلالة السلطان- أيده الله- يرى ويستمع لكل ما يدور ولن يرضى بعودة مواسم الهجرة ودروب الشتات لأبناء الوطن، كما لن يرضيه الدفع بآلاف ممن بنوا عُمان إلى غياهب السجون من جراء مطالبات البنوك وشركات التمويل بعد أن كانوا أول الشجعان الذين قفزوا من السفينة لينجوا المحمل كما يُقال. حفظ الله بلادي.