لم تكن مُجرَّد زخة مطر

 

علي بن سالم كفيتان

alikafetan@gmail.com

زمجر كورونا ورفع صوته عالياً حينما عَلِم أنَّه استطاع أن يتغلب على صَبر البشر، وأخرجهم من جحورهم التي لزموها كرها منذ شهرين ونيف، وأصبحت المواجهة محتومة دون الالتفات للخسائر البشرية هذه المرة، فقد تنصَّلت الحكومات عن مسؤوليتها التي تنافستْ على إظهارها مع بداية الجائحة بلجم هذا الأنسان المتهور وحبسه في بيته، حفاظا على بقائه، لكنَّ صلاحية الحكومات انتهت مُبكراً، فلم تصمد سوى شهرين تقريباً، وأعادت الكرَّة لسلطة الفرد في تحمل مسؤولية حياته ومن يحيط به، ولا عجب أن نرى كورونا يُحلِّق بمؤشره عاليا، كاسبا الجولة الأولى من صراعه مع الإنسان.. كُنت ولا أزال مقتنعًا بأنَّ البريطانيين أو سكان المملكة التي لا تغيب عنها الشمس، يمتلكون أرشيفا نادراً لكل مناحي الحياة بما فيها الأمراض والأوبئة؛ لذلك صدح رئيس وزراء تلك المملكة العتيقة، ومنذ بداية الأزمة، بأنَّ مناعة القطيع هي الحل لمواجهة جائحة كورونا، وأصيب الرجل بالوباء ومعه ولي عهد المملكة، وتعافى كلٌّ منهما وعادا لممارسة مهامهما.

قبل المطر أتى غيث من نوع آخر، وهو إزاحة ما يقرب من 13 ألف موظف من خانة الوظيفة إلى خانة التقاعد، وحسب مُتابعتي لأصداء الحدث على مواقع التواصل الاجتماعي، وجدت أنَّ الأمر لامس تطلعات الشباب، وذهب الكثير منهم لاتهام الأجيال التي قبلهم بالهم الجاثم على صدورهم، الحامي للمحسوبية الحاضن للفساد بكل أنواعه وأشكاله، فبرحيلهم سيتجدد وجه الدولة بهامات ندية لا تؤمن بالبيروقراطية، ولا تتفنن في إخفاء المعاملات وتعقيد أمور الحياة، وبطبيعة الحال قد لا نتفق مع هذا الطرح، لكننا ككُتَّاب وأعين ترصد توجُّهات الرأي العام نأخذ بجميع الآراء، ونُفرد لها ذات المساحة... فهل فعلا هذا الإجراء سيحلُّ كل تبعات ما بات يُعرف بترهل الجهاز الإداري للدولة؟ إذا كان هذا هو الترياق السحري سنبني للمُغادرين نُصباً تذكاريًّا وسط عاصمتنا الجميلة وسنحتفل به سنويًّا... وكما يبدو لي أنَّها ليست زخة مطر، بل سيعقُبها تعمُّق الأخدود الهيكلي وتحوله لإعصار من الدرجة الخامسة قبل رحيل عام المحن والأزمات والتقلبات غير المتوقعة.

هنا.. في الجنوب البعيد، فاض بحر العرب بمُزنه، وأغرق مُدننا، وأخذ معه أحلام وطموحات شباب في عمر الزهور، ولن نلُوم أحدا إلا أنفسنا هذه المرة، ويجب أن نعلم أنها لم تكن زخة مطر فحسب، بل كانت تطهيرًا لأرض اللبان من بقايا وساوسنا، والشعور الذي لم يفارقنا منذ نصف قرن.. غرقت حاضرة الجنوب مُجددا، ومعها بقية مدن الساحل، في دموع السماء المنهمرة بصمت من بحر العرب، وباتت تهدر مواقع التواصل الاجتماعي ومجموعات الواتساب باحثة عن الضحية الجديدة القديمة، ولم يجدوا إلا بحر العرب؛ فهو المُذنِب الكبير في حقنا في كل مرة... إنه موطن تكوُّن العواصف ومَهْد الأعاصير التي لا تُبقِي ولا تَذَر، ومع ذلك يتغنَّى كبار شُعرائنا بكرم ذلك المارد وطغيانه الذي يحول سُهولنا وجبالنا وباديتنا إلى جنة كل عام.. لا أدري لماذا هذا التناقض في حب صانع المطر هذا؟!!!

من التداخلات النَّادرة التي اطلعت عليها في مواقع التواصل الاجتماعي، أحدهم يقول: لن أتهم أحدًا بالتقصير مطلقاً، ولن أبحث عن ضحية، سأُواجه مصيري بشجاعة، فكل المدن العُمانية تغرق مع أول رشة مطر، بما فيها العاصمة، ويضيف: ولن أعارض فك الحظر المطلق على كورونا، فحصاره في مسقط لم يجدِ نفعاً ولن يمنعه من التمدد لكل الحواضر العُمانية التي تُوازي العاصمة من حيث الصروح الصحية والاستعداد والتأهب الوبائي، حسب إفادة مديري العموم المسؤولين عن الأوضاع الصحية في تلك المحافظات؛ فقواميسهم دأبت على وصف "كل شيء تحت السيطرة"، وآن الأوان لتجربة تلك السيطرة مهما كانت الخسائر.

في الختام، رحم الله من فَقدنا مع كل زخة مطر على مُدننا، ورحم الله من قَضَى نحبه بوباء كورونا ومن ينتظر، ونسأل الله للمغادرين سلك الوظيفة الحكومية كذلك الرحمة فقد باتوا في عداد المفقودين.

وحفظ الله بلادي...،