د. مجدي العفيفي
عندما يصدر الرأي من ذوي الاختصاص تصبح له قيمة مضافة، وما أشد احتياج عالم اليوم إلى أهل الذكر في كل تخصص، وكفانا ما عانيناه ونلاقيه من الذين يدعي كل واحد منهم أنه الوحيد (الفاتح) و(الفاهم) وأنه الذي يأتي بما لم يأت بها الأوائل والأواخر أيضا.. نسأل الله أن يخلصنا من هذه الكائنات التي آن الأوان لأن تنقرض على مختلف المسارات وتباين الأصعدة.
أقول قولي هذا وأنا أحدق في أطروحة عالمية مكثفة جرى تشريحها بمبضح جراح ماهر، وتجلى تأطيرها بتداخل السياسي في الثقافي بالوجودي، فيمتزج فيها العام بالخاص، ويتماوج فيها الذاتي مع الموضوعي، حتى ليسبق المتلقي صوت الكاتب ويقفز على سطور جوهر دعوته الإصلاحية ليرى إلى أي مدى يصل بنا إلى نقطة التنوير.
فأما صاحب الأطروحة فهو الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري.. مثقف قطري الهوية، عربي الهوى، إنساني النزعة؛ إذ هو وزير دولة برتبة نائب رئيس وزراء، وحاليا مستشار في الديوان الأميري، تقلد منصب وزير الثقافة والفنون والتراث (2008-2016) بعد أن كان سفير قطر في فرنسا والولايات المتحدة ولدى اليونسكووالأمم المتحدة. رشحته قطر لمنصب المدير العام للينسكوسنة 2017 واحتلّ المرتبة الأولى بعدد الأصوات خلال أربع جولات ثم حصل في الجولة الأخيرة على 28 صوت مقابل ثلاثين صوتا للمنافسة الفرنسية.
ثم هو منظر سياسي ودبلوماسي «دكتوراه في العلوم السياسية من جامعة ولاية نيويورك (ستوني بروك) وماجستير في الفلسفة السياسية من جامعة السوربون، باريس، دبلوم دراسات عليا من الجامعة اليسوعية ببيروت، ليسانس في الدراسات العربية والإسلامية من جامعة القاهرة– كلية دار العلوم، ومن مؤلفاته «جدل المعارك والتسويات» و«المعرفة الناقصة» وغيرها.. ثم هو محاضر ومشارك في الندوات والمؤتمرات. وكاتب مقالات سياسية واجتماعية وثقافية في عدة صحف عربية وأجنبية.
كل ذلك يمكًّنه من أن يضفي على أطروحاته التي بين ايدينا مصداقية أكبر، وموضوعية أعمق، إذ تتجلى لغة الأعماق البعيدة في كتلته السردية ذات الأنساق السياسية والفكرية والإنسانية، حتى ليعتبر نفسه «ابنا للأمم المتحدة وداعما قويا مخلصا لقيمها ومبادئها» فعلى مدار فترة تزيد على أربعة عقود من الزمن، اضطلع بأدوار مختلفة داخل جهازها البيروقراطي العملاق، بدءا من عام 1974 بتعيينه مندوبا لدولة قطر لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة (اليونسكو) وانتهاء بعام 2017 عندما فشلت بفارق صوت واحد في تولي منصب المدير العام لمنظمة اليونسكو.
رؤية الدكتور الكواري التي تنضوي تحت عنوان «حان وقت إصلاح الأمم المتحدة» تبدو إجابة تبحث عن سؤال، وهو سؤال يتعاظم في سياق اللحظة الراهنة: هل يستطيع عالم ما بعد كورونا، وانكشاف القوى التي ادعت زمنا طويلا أنها عظمى، فتساقطت الأقنعة لنراها ما هي بعظمى، بل لا تساوي جناح فيروس كورونا- إن لكان له جناح- هل يتجرأ هذا العالم ويمارس إصلاح الامم المتحدة التي ليست ملكية لأحد؟ وهي الدعوة الإصلاحية التي بح من أجلها مفكرون ورجال سياسة ومبدعون، وكثير من حراس القيم الحقيقيين في العالم.
ترى هل تصبح منظمة الأمم المتحدة عاجزة عن إيجاد مكان آمن لنفسها في عالَم اليوم، ناهيك عن استعادة مجدها السابق؟ هذا السؤال أسفرت عنه مقدمات الطرح، والمقدمات السليمة تؤدي دائما إلى نتائج سليمة.
ينطلق الكاتب من الدوائر العالمية المتشابكة ذات الضبابية المشوبة بانعدام الأمل الحقيقي في تجاوز ما يسمى بجائحة كورونا، والتي ينظر الكثيرون إليها على أنها «مسرحية عالمية» ومهما كان المنظور فإن رقم ضحايا كورونا يقترب من الخمسة ملايين نسمة، والبقية تأتي كما يعلنون هم.
مفكرنا الكواري يرى أن جائحة كورونا (كوفيد-19 COVID) كشفت عن العديد من نقاط الضعف المؤسسية، لكنها أظهرت في المقام الأول أن الأمم المتحدة في احتياج ماس إلى الإصلاح. وبشكل خاص، كَشَفت استجابة منظمة الصحة العالمية هيئة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة للفيروس عن أوجه قصور واضحة، والتي تعكس الافتقار إلى الإجماع والتعاون الدوليين، فضلا عن سياسات الحماية المنتشرة على نطاق واسع من جانب أصحاب المصلحة في هذه المنظمة، ويصف قرار الرئيس دونالد ترمب بتجميد التمويل الأمريكي للمنظمة بالضربة المدمرة في وقت حيث كانت في أمس الحاجة إلى الدعم، وهذا الانتقاد لمنظمة الصحة العالمية هوأعلى صوتا وأشد وضوحا.
لعلنا نشاطر كاتبنا السؤال: كيف تتعافى الأمم المتحدة من فشلها في التنسيق الفعّال خلال أزمة كوفيد-19، وهل هذا التعافي هو الذي سيحدد الدور الذي ستضطلع به في عالَم ما بعد الجائحة؟
من خلال معايشته لفترة وجوده في الأمم المتحدة يقول إن «وكالاتها ومنظماتها المتخصصة لعبت دورا بالغ الأهمية في الحفاظ على السلام العالمي، ومنع الصراعات الدولية، والقضاء على الاستعمار، وحماية حقوق الإنسان» ولكن- وهنا يستوقفنا صاحب الأطروحة- في وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، تراجع دور الأمم المتحدة على نحو مضطرد، وتضاءل تأثيرها على أحداث العالم وحكوماته، وبعد أن كانت ذات يوم وسيطا ومُحَكِّما بارزا في شؤون العالم، أصبحت مقيدة بِفِعل مفاهيم وعقائد قديمة إلى الحد الذي منعها من أن تكون حقا الهيئة الحاكمة العالمية الفعّالة والتعاونية التي تصورها مؤسسوها. فلم تعد قادرة على غرس الاحترام بين الحكومات للشرعية الدولية، والقانون الدولي، والحفاظ على السلام والأمن العالميين، كما فعلت بعد الحرب العالمية الثانية وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، على سبيل المثال، وهوالأمر الذي يجعلنا نتساءل معه وننتظر الإجابة منه: «الأمر ببساطة أن العالَم تغير وفشلت الأمم المتحدة في مواكبة هذا التغير. والآن، تسببت الأجواء السياسية والاقتصادية والثقافية المائعة المشحونة في ترك المنظمة التي كانت قوية ذات يوم مكشوفة ولم يتبق لها سوى قِلة من الأصدقاء يدافعون عنها.
لكن.. هل هذا التراجع يعني أن الأمم المتحدة محكوم عليها بأن تصبح جزءا من ركام من خردة التاريخ؟ هو يقول إذا كان لنا أن نسترشد بالماضي، فإن الاستجابة لجائحة كوفيد-19 الفشل الكارثي الفاضح من جانب السياسة العالمية من المرجح أن تبشر بفترة من التغيير الكبير في مختلف أنحاء العالم. وأظن أننا نتجه الآن نحونظام عالمي جديد وأكثر تنوعا، حيث لا يظل الحكم الدولي مدفوعا من قِبَل أي دولة بعينها أومجموعة من القيم السياسية.
ونلاحظ معه أنه أثناء أزمة كوفيد-19، فشل التضامن الدولي؛ حيث سعت كل دولة إلى حماية مصالحها الخاصة. وعندما يخرج العالم في نهاية المطاف من الجائحة، سنشهد استجوابات، وتبادل أصابع الاتهام، بل وحتى التضحية بكباش فداء، وسوف يكون لزاما على الأمم المتحدة أن تصمد في وجه هذه العاصفة وأن تتجاوزه.
لكن الدكتور الكواري يظن أنها في النهاية ستجد العون والمساعدة في هيئة تقدير جديد للمجتمع الجمعي الذي بنيناه في السابق بشق الأنفس.. ويعلن عبارة قوية إذ يقول «ستكون فترة الحساب هذه صعبة على الأمم المتحدة، لأن الأمر سينطوي على ضرورة اتخاذ قرارات صعبة. وسوف يكون لزاما على المنظمة أن تتخلى عن عقليتها القديمة وأن تتحرك في اتجاهات قد تجدها غير مريحة».
الإصلاح ... هو الشفرة التي أقام د. حمد الكواري عليها قوام أطروحته؛ فتتشخيص الإشكالية مطلوب، وتجسيد الأزمة مرغوب، وكل ذلك قد لا يخفى كثيرا على من يهمه أمر المنظمة الدولية، ومن ثم يشهر السؤال سيفه: من أين يبدأ الإصلاح؟
يقول الدبلوماسي العريق: يجب أن يبدأ إصلاح الأمم المتحدة من القمة بدءا بمجلس الأمن، الذي لا تزال الدول الخمس الدائمة في عضويته- الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة- تمارس سلطة النقض "فيتو" التي تتناسب مع زمن ولى وانتهى. ومن المؤكد أن توسيع العضوية الدائمة في مجلس الأمن لتشمل دولا أخرى من آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط من شأنه أن يوجِد توازنا أكثر إنصافا في عملية صنع القرار العالمي.
هل ثمة مبررات لهذا التغيير المنشود؟ في منظوره أن هذا التغيير له ما يبرره، كيف؟ يرى أنه من المنتظر أن تصبح الهند الدولة الأكثر اكتظاظا بالسكان على مستوى العالم خلال هذا العقد، واليابان صاحبة ثالث أكبر اقتصاد في العالم، وجنوب أفريقيا ونيجيريا أكبر اقتصادين في القارة الأسرع نموا سكانيا على الإطلاق، بذات القدر من الأهمية، يتعين على هيئات الأمم المتحدة أن تضمن أن مواطني الدول التي تتخذها مقرا لها لا يشغلون مناصبها العليا. كثيرا ما يؤدي اختيار قيادة منظمة ما إلى التشكيك في شرعيتها واستقلالها. ولا نحتاج إلى النظر إلى ما هو أبعد من منطقتي الشرق الأوسط لكي نرى الآثار الضارة التي من الممكن أن تحدثها مثل هذه القرارات.
تبقى الإشارة إلى أن نقطة التنوير ترى أنه ينبغي لجائحة كوفيد-19 أن تخدم كنقطة انطلاق ضرورية لإصلاح الأمم المتحدة. وإذا لم يحدث ذلك، فأنا أخشى أن تصبح المنظمة التي كرست لها الكثير من حياتي المهنية، والتي أحترم قيمها وأقدرها أعلى تقدير، عاجزة عن إيجاد مكان آمن لنفسها في عالَم اليوم، ناهيك عن استعادة مجدها السابق.
إذن .. غاشية اللحظة تؤكد حتمية التغيير سعيا إلي الإصلاح، فهل الذين يهيمون على أمور المنظمة، لاسيما في مجلس الأمن، سيكونون ديمقراطيين وهم الداعون الى الديمقراطية؟ خاصة أن الأصوات التي تشارك صوت صاحب اطروحتنا بإعلانها المطالبات الضرورية كلها تجمع وتجتمع على أن حتمية إعادة النظر فوراً في صلاحيات مجلس الأمن وتشكيله العضوي ونظام التصويت فيه، مع ضرورة خضوع قراراته للمراجعة القضائية، وإلا أصبحت هذه الصحوة بمثابة «شمشون» الذي سوف يحطم أركان معبد الأمم المتحدة على نفسه وعلى المجتمع الدولي ككل، بما يؤدي إلى تهديد خطير للسلم والأمن الدوليين، يشبه ما حدث بعد فشل عصبة الأمم ونشوب الحرب العالمية الثانية.
في ضوء هذه اللحظة «الآنية» ماذا تقول اللحظة «الآتية»؟
علم ذلك عند الله... وعند الدين يتصورون أنهم لا يزالون يمتلكون ناصية العالم...! علما أن «ناصية العالم» ليست هي «الكاذبة ولا الخاطئة»..!
أليس كذلك؟!