"أم هارون".. والموقف من الفن والإبداع والتطبيع

 

 

عبدالنبي الشعلة

** كاتب بحريني

 

 

في بداية هذا الشهر الفضيل انطلقت من غياهب اليأس والتذمر والإحباط أصوات عربية مُخلصة غيورة صادقة، مُنددة ومستنكرة وشاجبة بانفعال وغضب شديدين قيام عدد من خيرة الفنانين الكويتيين والخليجيين بإنتاج المسلسل التلفزيوني "أم هارون"؛ داعية إلى مقاطعته ومتهمة القائمين عليه بالعمالة والخيانة والتآمر والسعي المتعمد لـ"التطبيع" مع العدو الصهيوني المغتصب لأراضي أشقائنا الفلسطينيين والمنتهك لكرامتهم وحقوقهم المشروعة.

وقد طال الاتهام والتجريم والتخوين في الكثير من حالاته أيضًا دولة الكويت الشقيقة، والدول العربية الخليجية الأخرى وشعوبها، التي رأى بعض المنتقدين والمُهاجمين وعدد لا بأس به من المغردين والناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي أنها أنظمة وشعوب فقدت إيمانها بالقضية العادلة، وباعتها بأبخس الأثمان، وانساقت وراء المُطبلين للتطبيع مع العدو، هكذا وباسم العدالة والحرية وحقوق الفلسطينيين وتحت ظلال الشعارات البراقة تتم محاولات تكميم الأفواه وإخمادها، وإسكات الأصوات الأخرى وخنقها، وإرهاب الآراء المخالفة وإخافتها، وتكبيل الفن والإبداع وتحجيمهما.

إن وصف هذا العمل الفني بالأداة التي تدعو للتطبيع مع إسرائيل أعطى المسلسل دورًا أبعد وحجمًا أكبر من واقعه، كما أنَّ الحملات المشحونة بالعواطف والعواصف والانفعالات التي شُنت عليه جاءت بنتائج عكسية مُغايرة ومخالفة لما ابتغاه أصحابها، فلم يستجب المشاهدون العرب للدعوة إلى مُقاطعته؛ بل إن هذه الحملات شدت انتباههم وأثارت فضولهم واهتمامهم؛ فصارت أفضل وأنجع وسيلة للتسويق والترويج لهذا البرنامج انعكست على تضخم حجم المشاهدات له بشكل منقطع النظير، فسجل أكثر من 113 مليون مشاهدة في أول 5 أيام من شهر رمضان المبارك، وهذا العدد أخذ في الارتفاع مع توالي أيام الشهر الفضيل، وقد بلغ عدد الحلقات التي بثت من هذا البرنامج 20 حلقة حتى كتابة هذه الأسطر.

ولا شك أنَّ الذين مارسوا حقهم المشروع في الانتقاد والشجب من منطلق حرية التعبير لا يمانعون، بل ربما يتطلعون إلى سماع الرأي الآخر الذي وجد بدوره أن الإبداع في الفن أصبح يتطلب اقتحام المناطق المحظورة، وأن القائمين على هذا المسلسل كانوا يحاولون صوغ مشاهد درامية للعلاقات الإنسانية والأسرية والاجتماعية المُتداخلة والمتشابكة والمتقاطعة للمجتمع الخليجي في فترة الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، وقد استنهضوا شخصية "أم هارون" اليهودية الكويتية الحقيقية، أو استنسخوا شخصية "أم جان" اليهودية البحرينية الحقيقية للتأكيد على حالة الانسجام والتسامح التي كانت سائدة في مجتمعاتنا الخليجية، ومن أجل خدمة ودعم قضية التآخي والتعايش بين الأديان والطوائف والمعتقدات وتعزيز ثقافة السلام واحترام الآخر التي لا أظن أنَّ المنتقدين يعارضونها.

ولم ير أصحاب الرأي الآخر أنَّ هذا العمل الفني فيه أي محاولة لتشويه الحقائق التاريخية كما قال بعض المنتقدين؛ لأن هذا المسلسل لم يرد له أن يكون عملًا توثيقيًا محكمًا، ولكنه خيالي درامي كما ذكرنا، لا يتطلب الدقة المتناهية عند تكييف بعض الوقائع التاريخية لخدمة الحالة الدرامية المتخيلة للموضوع، إضافة إلى أن العمل الفني الدرامي، كبقية الفنون مثل الرسم والنحت وغيرهما، يخضع بالضرورة إلى التصرف والتكييف والمعالجة أو الحبكة الإبداعية التي تختلط فيها الأماكن وتمتزج فيها الحقيقة بالخيال؛ ولذلك لا حاجة للمنتقدين إلى تصيد بعض المُفردات العابرة التي وردت في المسلسل وتجييرها وتحويرها لإثبات جريمة تزييف التاريخ؛ هذا إذا كنا نحن العرب نتوجس أو نتحسس فعلا من تشويه وتزييف التاريخ!

ومع تتالي حلقات المسلسل، فقد وجد الجميع أن قصته باختصار تتمحور حول أم هارون، وهي سيدة كانت يهودية تعمل قابلة ومُمرضة في وسط مجتمع خليجي في أربعينات القرن الماضي الذي شهد قيام دولة إسرائيل، وكانت قد تخلت عن دينها وتزوجت "خليفة" المسلم الخليجي الذي مات في حادث غامض تمَّ فيه حرق منزله بتدبير من أخيه للاستيلاء على ثروته. وقد تعقدت وتأثرت العلاقات الإنسانية والاجتماعية بين اليهود والمُسلمين في البلاد العربية نتيجة لقيام إسرائيل وعزم الحركة الصهيونية على تشجيع ودفع اليهود العرب إلى مغادرة أوطانهم والهجرة إلى إسرائيل.

وتتطرق القصة إلى طائفة صغيرة من اليهود العرب كانت تعيش بانسجام واندماج تام في أحد المجتمعات الخليجية، كان على رأسها الحاخام داود الجشع البخيل، الذي يكدس المجوهرات والأموال، والذي يتضح بعد منتصف المسلسل أنَّه كان يعاني من انشطار وازدواجية في الفكر بين الطرح الصهيوني الاستيطاني لفلسطين في مُقابل الطرح العقلاني الوطني الذي يدعو إلى التمسك بالوطن والتفريق بين الدين والانتماء الوطني، بينما كانت زوجته مسعودة واضحة وثابتة على انتمائها الوطني إلى جانب ابنتها راحيل التي وقعت في حب محمد ابن الملا عبدالسلام، أما ابنته الأخرى رفقة وزوجها عزرا فإنهما منحازان إلى جانب الصهيونية، ويقومان بجمع وسرقة الأموال والأسلحة وإرسالها إلى الصهاينة في فلسطين، إلي درجة أن قرر عزرا مغادرة وطنه الخليجي للهجرة إلى إسرائيل التي عاد منها بعد فترة وجيزة بعد اكتشافه زيف الادعاءات والدعاية الصهيونية.

فهل في هذا العمل الفني أي محاولة للتمهيد للتطبيع؟ ثم من قال لكم إن إسرائيل تسعى جادة للتطبيع معكم؟ فليطمئن المنتقدون وليعلموا أن إسرائيل في حقيقة الأمر لا ترغب ولا تُريد التطبيع مع الدول العربية؛ لإدراكها التام بأنَّ تحقيق التطبيع يتطلب ومرتبط بتحقيق العدالة والسلام، ولأن إسرائيل لا ترغب في السلام ولا في العدالة فهي بالنتيجة لا ترغب في التطبيع، إذ لا يُمكن تحقيق حالة التطبيع قبل إحلال السلام والعكس صحيح، ولقد وقعت إسرائيل اتفاقيتي سلام مع مصر والأردن منذ سنوات طويلة، إلا أن حالة التطبيع الحقيقية لم تتحقق حتى الآن مع هاتين الدولتين العربيتين.

نحن والعالم بأسره نرى كيف أن إسرائيل ترفض وتعرقل وتجهض كل محاولات وأفكار وخطط السلام بينها وبين الفلسطينيين والدول العربية؛ لأنها مقتنعة بأنَّ إحلال السلام في المنطقة ليس في صالحها، وهي لم تعد في حاجة إلى التوصل إلى حالة من السلم والتطبيع مع الدول العربية التي لم تعد تشكل أي تهديد أو خطر عليها وعلى أمنها، وهي في هذا الحال من التفكك والضعف والهوان والانقسام والتشرذم.

المعترضون على المسلسل اتهموا المُمثلة الكويتية القديرة حياة الفهد وباقي القائمين عليه بالتآمر لصالح العدو الإسرائيلي، مع أنهم وغيرهم يدركون ويعرفون أن إسرائيل لم تعد في حاجة إلى بذل الجهد والمال في سبيل تجنيد أي منِّا للتآمر والعمل ضد مصالح أوطاننا؛ فنحن نقوم بهذه المهمة طوعًا ومجانًا، وإن إسرائيل ليست في حاجة إلى تجنيد عملاء لها في المنطقة للتخريب وإحداث التغيير في بلداننا؛ فبالنسبة لإسرائيل كل شيء على ما يرام في الوطن العربي، و"ما فيش أحسن من كده"!