التفسير التآمري للتاريخ

 

عبدالله العليان

منذ ما يقرب من قرن أو يزيد، واجهتْ أمتنا العربية الكثير من الأزمات والتوترات، قبل استقلالها وبعد ذلك، وأصبحت هذه المشكلات مستعصية على الحل في أحيان كثيرة عندما تتراكم، وكلما تخرُج من أزمة من الأزمات تدخل في أخرى، حتى أصبح بعضنا يصف هذه الأزمات والتوترات والمشكلات، بأنها من قبيل "التآمر" الخارجي على هذه الأمة، وكأنها -الأزمات- تجري على هذه الأمة دون سائر الأمم الأخرى!

والحقيقة أنَّ هذه النظرة السلبية، تكاد تنقلب إلى عقلية "جبرية" مستحكمة، في الذات العربية على الوجه الأخص، فكُلما تأتي مشكلة من المشكلات، نستكين لهذه الرؤية التآمرية عليها، دون التفكير في أسباب أخرى دافعة لها، ونتهرَّب من المراجعة والاستقصاء والبحث، عمَّا نحن فيه من مشكلات سياسية، أو اقتصادية، أو اجتماعية... أو غيرها من التراجعات والإخفاقات الأخرى، ونرمِي كل ما يجري على المؤامرة التي تُحاك ضدنا من قبل الآخر، وهذه الإشكالية تحوَّلت للأسف إلى جمود فكري، شل العقل والتدبر والنظر والرؤية الحصيفة، عما ينبغي التفكير فيه بدلاً، من التمحور حول فكرة التآمر والمؤامرة الخبيثة، والتوقف عن إيجاد حلول ومخارج لهذه الأزمات التي تتوالَّى بين الحين والآخر، وهذه بلا شك عملت على تغييب النظرة الموضوعية لتفسير التاريخ العربي وحركته مع الأمم الأخرى، بما يستوفِي المضامين الصحيحة والدقيقة للواقع الذي تعيشه، وكان من الأولى والأهم أن يتم التفكير العلمي والرؤية الثاقبة لما يدور من سياسات ومخططات، نحن أقدمنا عليها بأنفسنا وخياراتنا الذاتية، وأدت إلى ما نحن عليه الآن. وأتذكر في طفولتنا وقد وعينا على الحياة، أننا كنا نسمع أحاديث كبار السن، في مناقشاتهم وحواراتهم عن التآمر الغربي، الذي حل بأمتنا ولم يتوقف، وهو أيضاً ما سمعوه هم من كتابات وأخبار إذاعية آنذاك، تفّسر الهزائم، أو "النكسات" كما سُمِّي بعضها تخفيفاً من أثرها النفسي والسياسي، وكتفسير لما يجري من حروب وصراعات ومشكلات داخلية.

فأغلب الحروب العربية/الإسرائيلية التي جرت وخسرناها، قالوا إنها مؤامرة خارجية، خطط لها مسبقاً، والوحدة المصرية-السورية بعد عامين من الانفصال، وأسبابها كانت معروفة، قالوا عنها إنها مؤامرة غربية/صهيونية لتفتيت وحدة الأمة، وحرب الخليج الأولى والثانية التي تعايش معهما هذا الجيل بكل تفاصيلها وأسبابها قالوا عنهما إنهما مؤامرة غربية لإضعاف الأمة، وكذلك غزو الكويت عام 1990م، وما جرى فيها أيضاً كانت مؤامرة لشل حركة الأمة وقدرتها ونهب ثروتها.. آخرها أحداث الربيع العربي في العام 2011،عندما خرج الملايين في العديد من الدول العربية للتعبير عن مطالب مشروعة، فقال البعض إنها مؤامرة خارجية!! والذي يبعث على الضحك أكثر مما يدعو للبكاء، أن أحد الكتاب الكبار في الوطن العربي، قال عن الربيع العربي في إحدى القنوات التليفزيونية: إنَّ "الربيع العربي خُطط له في حلف شمال الأطلسي (الناتو)"!

فقضية المؤامرة أرى أنَّها هروب من مواجهة الأخطاء والسلبيات، والركون للتفسير الثابت المعروف، للتهرب من استحقاقات كشف الأخطاء ومحاسبة المخطئين، وكانت هذه الأخطاء والسلبيات كبيرة ومدمرة، وآثارها تفوق الوصف والتحليل. صحيح أن قضية الصراع، مسألة معروفة وثابتة في النظام الدولي ولا يمكن نكرانه، وهو صراع إرادات ونفوذ لاختلاف المصالح، والأيديولوجيات، والأهداف في إستراتيجية الدول الكبرى في عالم اليوم؛ فهذه تعمل على ضعف الآخر ومحاصرته ضمن هذا الصراع الدولي وضمن خطط هذه الصراعات القائمة، وهذه الصراعات الدولية تجري بين الدول بأساليب وطرق متعددة، ولسنا نحن فقط الذين يجري علينا التآمر دون بقية الدول، لكنَّ الفارق أن بعض هذه الدول، لا تنام وتتهرب مما يجري من صراعات ومن مخططات دولية، بل إنها تتخذ من التدابير ما تراه مانعاً وحاجزاً لمنع أو إجهاض هذا التآمر الذي قد يكون صحيحاً أو متوهماً، وهذا له الكثير من الحسابات، من الخبراء والإستراتيجيين ومراكز البحث، وهو بلا شك قضية قائمة، ولن تتوقف لاختلاف التوجهات السياسية، لكن هذا لا يتحقَّق دائما إلا من خلال إخفاقاتنا نحن، وضعف المناعة لدينا، وتفاقم مشكلاتنا الداخلية، وغياب مراكز البحث والخبراء الذين يضعون ما هو جدير بالبحث والدراسة أمام صناع القرار.

لكن هذه الأدوات المهمة نفتقدها نحن، ولا نلقِ لها بالاً، وهذه هي رأس المشكلة التي لم نخرج منها بتغيير سياسة القرار الفردي، في غياب المراجعة.. وغياب النقد.. وغياب المحاسبة، إلى جانب أن الكثير من القرارات الخطيرة التي دارت في ظروف خطيرة، كانت نتيجة مرتجلة، ودون النظر إلى مخاطر تبعاتها، فحرب الخليج الأولى التي قامت بين إيران والعراق كانت مغامرة غير محسوبة لغياب الرؤية العقلانية ودراسة التبعات والآثار، والتي كانت الدافعة لغزو الكويت بعد، وكانت نتيجة من نتائج غزو العراق أيضاً!! وهناك الكثير من النكبات والسياسات التي كانت من صنعنا، ومن تفكيرنا الخالص، وليس من صنع العدو الخارجي، إذا ما أردنا الاستقصاء الدقيق، لما جرى ويجرى حتى الآن من سياسات خاطئة، ولا تزال أمتنا ترزح تحت تأثيرها ومؤثراتها، ولا شك أن الاستبداد، وغياب النقد، والمراجعة، والاعتراف بالأخطاء، هي التي تجعل أزماتنا تعود وتتكرر مرة بعد مرة، دون أن نرجع للخلف قليلا، ونسترجع ما جرى من سياسات خاطئة، حتى يتم تلافي هذه السلبيات. والإشكالية أننا نحن الذين نأتي بالتآمر، ونجعله واقعاً في أزماتنا؛ ذلك أننا نصنع المشكلات داخلنا، ثم يضعف جهاز المناعة لدينا، فتتحرك الأصابع الخارجية، وفق نظرية "صراع الإرادات والمصالح"، وتُطرح ذرائع عديدة للتدخل والتآمر لأهداف معروفة ومكشوفة، وهذه معادلة لا تقبل النقاش، ويتم التكالب علينا نتيجة ضعفنا، وأخطاء السياسات غير المدروسة.