أزمة العمالة الوافدة (2-2)

 

أين كنتَ يا مطر في يومِ عاشوراء؟

 

عبدالنبي الشعلة

 

نعم، لقد وقع الفأس على الرأس جراء اعتمادنا المفرط في دول مجلس التعاون الخليجي خلال العقود الماضية على العمالة الوافدة لتنفيذ وإنجاز خططنا ومشاريعنا التنموية الطموحة؛ وذلك لضعف كثافتنا السكانية وافتقارنا كمًّا ونوعًا إلى الأيدي العاملة الوطنية اللازمة لتحقيق طموحاتنا وتطلعاتنا وأهدافنا المشروعة، إلى أن وجدنا أنفسنا الآن أمام مأزق وفي وضع دقيق لا يختلف اثنان على حساسيته وخطورة أبعاده الاجتماعية والإنسانية وتهديداته الواضحة لمستقبل هويتنا وأوضاعنا الاقتصادية والأمنية وسيادتنا الوطنية.

إلا أننا إذا سعينا إلى تغليب النظرة الإيجابية على السلبية فسنجد أن هذا الواقع رغم تعقيده وصعوبته ومرارته لا يستدعي منِّا اليأس والقنوط، ولا يدعونا إلى لطم الصدور وشق الجيوب، فليس هناك لبن مسكوب نبكي عليه إذا أخذنا في الاعتبار المكتسبات والإنجازات الباهرة التي نجحنا في تحقيقها وبلوغها طيلة تلك العقود.

لقد كانت تلك الفترة مرحلة أو تجربة فرضتها الظروف والمُعطيات التي كانت سائدة وقتها، بسلبياتها وإيجابياتها، وأصبحت الآن تستدعي وتحتاج منا إلى إخضاعها للمراجعة والتقييم على ضوء النتائج التي تمخضت عنها، وعلى ضوء المتغيرات والمستجدات، وبحكم ما تقتضيه سُنن التغيير والتطوير التي تمليها حتمية تنقل المجتمعات من مرحلة إلى أخرى ومن طور لآخر؛ فهكذا تنضج الشعوب، وهكذا تتراكم خبراتها وتجاربها ويتكون رصيد تراثها.

إلا أنَّ ثمة حقيقة واحدة بهذا الشأن تبقى عصية على التغافل أو النكران، وهي أنه لم يبق أمامنا الآن مجال واسع للتسويف أو التأخير في الاضطلاع بمسؤولياتنا للتصدي للتحديات التي تمثلها العمالة الوافدة في بلداننا بعد أن أيقظت جائحة كورونا الغافلين منِّا. إن القطار وإن فات فبالإمكان اللحاق به، فنحن ما نزال نملك القليل من الوقت وبعض الأدوات، وبالإمكان اقتلاع الفأس من الرأس إذا كانت لدينا الإرادة القوية والنية الصادقة، كما أنَّ سبل ومسارات التقييم والتصحيح والإصلاح ما تزال متاحة.

إن الجميع أصبح يُدرك أنك إذا أردت أن تقتل موضوعًا وتدفنه فحوله إلى لجنة حكومية لدراسته، إلا أنه استنادًا إلى منطق "إن لكل قاعدة شواذ" فإننا نقترح تشكيل فريق عمل خليجي عالي المستوى من كبار المسؤولين المعنيين والمتخصصين وفعاليات القطاع الخاص؛ على أن يُعطى هذا الفريق الصلاحيات اللازمة ليعمل تحت إشراف المملكة العربية السعودية الشقيقة، وأن يُباشر مهامه في أسرع وقت ممكن لتقديم الحلول ضمن جدول زمني محكم وفي خطة عمل أو خارطة طريق واضحة المعالم تتضمن السياسات والإجراءات الواجب تبنيها والخطوات اللازم اتخاذها لمُعالجة الموضوع والتصدي له من مختلف الجوانب والمحاور، منها وباختصار شديد:

المحور الأول: تكثيف الجهود والمبادرات والبرامج الهادفة إلى تسهيل عملية الإحلال وإدماج العمالة الوطنية في سوق العمل، والعمل على رفع تكلفة العمالة الوافدة حتى يتم توفير جو من المنافسة العادلة المتكافئة بالنسبة للعمالة الوطنية.

المحور الثاني: الوقف والمنع التام والصارم والفوري لجلب المزيد من العمالة الوافدة أو إصدار رخص عمل جديدة، وخصوصًا للشرائح الدنيا من الأيدي العاملة؛ وذلك دون استثناء ومهما كانت المُبررات، ويمكن تحقيق ذلك الآن بسهولة ومن غير مواجهة أي اعتراض من جانب القطاع الخاص الذي لا تنقصه الحصافة الاقتصادية أو الإدراك والحس الوطني.

إن المنع المقترح إذا طُبق، فلن يسبب أي ضرر أو عرقلة للنشاط الاقتصادي بسبب توفر مخزون هائل من هذه العمالة في السوق المحلي المتمثل في العمالة المسرحة والسائبة وغير القانونية والعاطلة التي يجب تسوية وتصحيح أوضاعها، والتي من المتوقع أن تأخذ أعدادها في التزايد خلال الأشهر القادمة، وقد قدر عددها الآن في الكويت فقط وعلى سبيل المثال بأكثر من ربع مليون عامل.

ومما سيُسهل عملية ضبط تدفق المزيد من العمالة الوافدة والعمل على تخفيض عددها، هو الانحسار التلقائي المتوقع للحاجة إليها بسبب التراجع الاقتصادي الذي ستشهده منطقتنا والعالم بأسره الناتج عن تداعيات جائحة كورونا وتدني أسعار النفط، وأيضًا بسبب تشبع الأسواق الخليجية وتوقف نهمها بعد استكمال إنجاز معظم مشاريع البنية الأساسية.

المحور الثالث: وربما هو الأهم، السعي إلى قيادة مجتمعاتنا لإعادة النظر في بعض الممارسات والمفاهيم التي استقرت وترسخت في أذهاننا منها؛ ضرورة تعزيز الاعتبار  والثقة في عمالتنا الوطنية وفي قدراتها والتزامها وانضباطها، وتصحيح القناعة الخاطئة لدى البعض منِّا بالقيمة الاقتصادية للأيدي العاملة الوافدة الرخيصة؛ إذ إن الحقيقة والقاعدة التي أصبحت معروفة الآن، هي أنَّ العمالة الرخيصة ليست بالضرورة عمالة منتجة أو مفيدة للاقتصاد، وقد تتحول إلى عبء كما هو حاصل لدينا الآن، ووجودها بكثرة يعطي عادة صورة مغلوطة للاقتصاد false economy    ونتيجة لتدني مداخيلها، فهي لا تستطيع أن تساهم في توسيع الطاقة الشرائية والاستهلاكية للاقتصاد؛ لذلك تسعى الصين الآن على سبيل المثال إلى غسل يدها الملطخة بعرق العمالة الرخيصة، وتحاول أن ترتقي بسمعتها وترفع مستوى أداء عمالتها برفع أجورها وتحسين أوضاعها وظروفها المعيشية ودعمها بالوسائل التكنولوجية للإنتاج.

وأتذكر أن إحدى المسوحات الميدانية التي أجريت لدول مجلس التعاون في نهاية التسعينات أشارت إلى أن 80% من العمالة الوافدة بدول المجلس لا تستطيع أن ترتاد المطاعم أو تدخل المجمعات التجارية للتسوق نظرًا لتدني مداخيلها وبالتالي مقدرتها الاستهلاكية والشرائية.

وفي الحقيقة فإنَّ العمالة الرخيصة الوافدة لدول المجلس ليست ولم تكن قط رخيصة في الواقع، فقد كانت وما تزال الحكومات الخليجية تتحمل الجزء الأكبر من كلفتها، من خلال توفير حق الانتفاع لها مجانًا من كل المرافق والخدمات الحكومية التي تقدمها هذه الدول لمواطنيها وما أكثرها والحمد لله، إلى جانب تمكينها من الاستفادة من برامج الدعم الحكومي السخي للماء والكهرباء وغيرها من الخدمات وبعض المواد الغذائية الأساسية، فالعامل الوافد في البحرين على سبيل المثال ما يزال يشتري عشرة أقراص من الخبز المدعوم بسعر بمئتي فلس فقط، وكان حتى عهد قريب يشتري لحم الضأن المستورد حيًا من أستراليا بسعر دينار واحد فقط للكيلو، بينما التكلفة الحقيقية له كانت تبلغ ثلاثة دنانير تقريبًا وكانت الحكومة تدفع الفرق، وهذه مجرد أمثلة فقط.

سنضطر لضيق المساحة للتوقف عند هذا الحد وسنستكمل استعراضنا للمحاور الأخرى إن شاء الله.