المشروع العربي المفقود لمواجهة المشروع الصهيوني

 

عبيدلي العبيدلي

عرف الصراع العربي الصهيوني محطات بارزة في تاريخه المُمتد منذ اغتصاب الحركة الصهيونية جزءا من الأراضي الفلسطينية، وتأسيس دولتهم عليها في نهاية الأربعينات من القرن الماضي مرورا بالحروب العربية – الإسرائيلية المتتالية، ومن بين الأهم فيها حرب حزيران 1967، وحرب رمضان 1973، وعند كل محطة بارزة في ذلك الصراع، كان يندلع تناقض ثانوي يطفو على السطح، وينمو من مرحلته الثانوية، كي يتبوأ موقعاً إستراتيجيًا مادته تحديد موقف عربي من ذلك الصراع، بما يشمل الوقف الفلسطيني أيضًا.

في كل محطة من تلك المحطات ينقسم العرب، ويتحد الصهاينة، بين من يطلق عليهم "عرب التطبيع"، ومن يصنفون في فئة "عرب المقاومة". وبينما يحتدم الصراع بين قوات هاتين الفئتين، يحتفظ الكيان الصهيوني بمشروعه الاستراتيجي المُتماسك القائم على محاربة الطرفين، دون تمييز بينهما، كل بالأسلحة التي تضمن هزيمته، وتصون الكيان من أية أخطار، لا تهدده فحسب، وإنما تحول دون استمراره في عملية القضم التي تضمن له ضم المزيد من الأراضي الفلسطينية، وتحقق له تهجير المزيد من أفراد عائلات الشعب الفلسطيني من تلك الأراضي.

الحقيقة المؤلمة التي يرفض الكثيرون منا، ممن انخرطوا في ذلك الجدال الذي يقترب من البيزنطية في جوهره، أننا نحن العرب، في معسكرينا تكبدنا الخسائر، التي كانت من بين الأسباب التي قاد إليها، ذلك الصراع غير المنطقي الذي شق الصف العربي، عمودياً على المستوى القومي، وأفقيا على الصعيد الوطني، إلى معسكرين متخاصمين، فاق التناقض بينهما، ذلك التناقض المفترض أن يحل مكانه، بين أي من المعسكرين والكيان الصهيوني.

والسبب الذي يقف وراء هزيمة المعسكرين، كل على حدة في غاية البساطة، إن أردنا تحاشي التعقيد، والخوض في العمق، هو أن أياً منهما لم يكن يملك في أي من مراحل ذلك الصراع، رؤية استراتيجية واضحة، تقوم على مشروع متكامل، يستند على معطيات دقيقة تضمن له الوصول إلى خط النهاية وهو منتصرا.

فكانت المحصلة النهائية، بغض النظر عن النوايا، هزائم سياسية وعسكرية متكررة يتكبدها الطرف العربي، وانتصارات، تبدو غير منطقية ينعم بها العدو الصهيوني، الذي لم يواجه حتى الآن ذلك المشروع العربي القومي القائم أساسًا على استراتيجية واضحة غير قابلة للمساومة تقود إلى استعادة الشعب الفلسطيني لأراضيه المغتصبة، وعودة ذلك الشعب من المهاجر التي اضطر للعيش فيها.

تبقى الانتفاضات الفلسطينية المتكررة وحدها هي، دون غيرها، البذرة الأولى التي تسير في الطريق الصحيح، وفي الاتجاه الصائب. وهذا يُفسر تلك الاستراتيجية المتوحشة التي تواجه بها آلة الحرب الصهيونية تلك المقاومات الفلسطينية المتكررة، بأشرس الأساليب، وأقوى الأسلحة التي تتجاوز البرية منها كي تصل إلى سلاح الطيران، الذي يتفاخر العدو الصهيوني بتفوقه وكفاءته العالية.

ليس هناك ما يدعو للتشكيك في وجود فئة في معسكري "المقاومة"، و"التطبيع" مؤمنة بما تدعو له، وما تريد أن تضحي من أجله. لكن الصراعات، وعلى وجه الخصوص تلك التي تحركها دوافع البقاء، لا تحسمها النيات الطيبة، ولا الدوافع المخلصة. فهي في أحيان كثيرة تنتهي كي تصب في صالح جبهة العدو. وهو ما تؤكده نتائج الصراع العربي - الصهيوني على امتداد ما يزيد على 70 سنة منذ اندلاعه.

والسبب الرئيسي الذي قاد إلى تلك الانتصارات التي نعم بها العدو، وما رافقها من انتكاسات تكبدها الفريق العربي، هو، كما أشرنا هو غياب المشروع العربي المُتكامل لدى أي من طرفي الجبهة العربية: الداعون للتطبيع، والمنادون بالمقاومة.

ويقود غياب تلك الرؤية الاستراتيجية الشاملة المتكاملة، إلى نمو الكثير من الطحالب المضرة التي يخدع مظهرها الخارجي الكثير ممن في الجبهتين العربيتين، فينساق وراء كل واحدة منهما جيش من المخلصين الذي يتوهم كل فريق منهما أنه ينتمي إلى الجبهة التي يبحث عنها كي توصله إلى ما هو مستعد للتضحية بأغلى ما يملك، من أجل تحقيقه.

 هنا ينبغي التشديد على ضرورة تحاشي التعميم، والتأكيد على أنه في صفوف الجبهتين، هناك الكثير من العناصر المخلصة، وخاصة التي في أوساط الشباب ممن يدفعهم الحماس فيقعون فريسة سهلة في شبكة غياب المشروع العربي المتكامل، سواء ذلك الذي يدعو للتطبيع، أو المنادي للمقاومة.

منطق الصراع يدعو الطرفين إلى وقف الحرب – الكلامية، أو العسكرية- بينهما وتوجيه البنادق نحو صدر العدو بدلاً من الوجهة التي هي عليها اليوم، وهي صدور بعضنا البعض.

فهذا التحويل سيحقق مجموعة من الأهداف التي نفتقدها اليوم، بسبب الاتجاه الخاطئ لفوهات بنادقنا، يمكن رصد الأهم بينها في النقاط التالية:

  • تقليص التناقضات الثانوية داخل الصف العربي، التي استنزفت خلال الفترة المنصرفة قوانا في معارك هامشية، حالت، في أحيان كثيرة دون الاستفادة من تلك القوى في استنزاف العدو، وإنهاك مصادر قوته، وإضعاف عناصر تفوقه، وزرع بذور الشك في صفوفه.
  • حشد القوى العربية كافة في جبهة قومية متماسكة، قادرة على وضع الاستراتيجيات، وتنفيذ الخطط، التي من شأنها إلحاق هزائم متكررة بالعدو الصهيوني. وهذا بدروه قادر على زرع الشك صفوفه، كخطوة أولى على طريق تفكيك قواه من أجل الوصول إلى بث روح الهزيمة فيها.
  • القضاء على كل من تسول له نفسه شق الصف العربي، كخطوة أولى على طريق إرباك موقف القوى الصديقة والحليفة التي تجد نفسها أمام خيارات صعبة تشل حركتها، وتحول دون التضامن مع الحق الفلسطيني على نحو ضيق، ولاحقاً العربي على نطاق أشمل.

وحجر الأساس في نجاح أي مشروع عربي يخلو من الشقاق، ويحصن نفسه ضد عناصر التمزق، لا يمكن أن يكتب له النجاح، ما لم تسبقه وحدة الصف الفلسطيني المنطلقة من إيمان صادق عميق، يرتكز على رؤية استراتيجية متكاملة، تقوم على مشروع وطني قادر على حشد صفوف الشعب الفلسطيني وراءه.

وفي غياب مثل ذلك المشروع، سيواصل التآكل الداخلي العربي طريقه القادر على إنهاك الجسد العربي من الداخل، بدلاً من إرهاق العدو الصهيوني، وتشتيت قواه، واستنزاف موارده، الذاتية منها والخارجية التي يتلقاها من بلدان أخرى.... كما أنه في غياب ذلك المشروع سيستمر النزيف الفلسطيني، ويتواصل الانقسام العربي بين جبهة "مقاومة" وأخرى "مطبعة".