بين التعمين والتمكين

 

 

فاطمة الحارثية

مَع مُتابعة مُستجدات الكثير من الدول منذ أن بدأت جائحة "كوفيد 19"، وحال النداء "إلى المواطنين، عودوا إلى البلاد"، وقول: "على العمالة والأجانب مُغادرة البلاد".. بعض الدول لجأت لهذه السياسة من أجل أن تُحافظ على مواردها الطبية، خاصة وأنَّ تكلفة علاج الجائحة عالية، وإمكانيات معظم الدول لا تسمح باستيعاب أعداد هائلة من المصابين من مواطنيها؛ فكيف يكون الوضع إذا تفاقم على مواردها جنسيات متعددة؟!

ربما قد لا يستسيغ الإنسانيون هذه المواقف؛ فهم في حال أن الإنسان يستحق الاهتمام دون تميز، خاصة إذا ما جانب الموضوع أساسيات الحياة كالصحة والطعام والمسكن، وهنا وجب التنبيه إلى قوة هيمنة أيديولوجية "صراع البقاء".

ونجد أيضًا الكثير من الآثار التراكمية لحقائق كثيرة لدى معظم الدول، كأثر الكثافة السكانية غير المنظمة، وحجم الإنفاق على المتعفِّفين والعاطلين عن العمل، وغيرهم من معونات حكومية وغيرها، النسبة والتناسب بين الحاجة العمالية وأثر ذلك على النمو الاستثماري، حجم ومقدار أثر تهجير الأموال، خاصة وأن الأمر أخذ منحنيات مختلفة في فترة الجائحة، مدى الإنفاق على الوعي المجتمعي، وليس أخيرا قدرة الدول على الاستمرار والنهوض في حروب ليس السلاح الحكم فيها، وهنا -إن أَجدتُ التعبير- ربما على الكثير من الدول أن تراجع سياسة الإنفاق وإستراتيجياتها وأولوياتها في مفاهيم الاستدامة والنمو والبنية الأساسية على المدى الطويل.

بعد التوجُّه الذي أتت به العديد من الدول -ومنها السلطنة- نحو الإحلال وتوطين الوظائف بشكل عام في جميع القطاعات، وبشكل تام في القطاعات الحكومية، ظهرتْ وفرة من التساؤلات؛ منها: ما هي الإستراتيجيات المناسبة للإحلال في فترة زمنية قصيرة؟ وما هي آثار التعمين السريع ماديا وإداريا على المدى الطويل؟ وإذا نظرنا إلى الوظائف القيادية، متى يستحق الموظف التمكين؟ ومن يستحق التمكين؟ وما هي المخرجات المتوقعة كنتائج لهذه العمليات ومدى نفعها للاقتصاد وسلم التنوع الثقافي التجاري؟ وغيرها.

لننظر إلى مفهوم التمكين ببعض التوسعة، فنحن جميعا نتفق على أنَّ مناصب القيادة هي جوهر بقاء أية شركة أو مؤسسة؛ سواء كانت عامة أو خاصة، والتعمين فيها وجب أن يكون مدروسا وتدريجيا، لأنَّ المعتقد السائد أن كل منجز هو قائد ليس صحيحا، فالإنجاز يعتمد على أداء ومهارات تقنية، بينما القيادة ترتكز على قدرات ومهارات ريادة أقرب للإنسانية العملية والتنظيم، فالقيادة بالمفهوم البسيط هي مصنع "صناعة القرار"، وأي خلل في إمدادات ذلك المصنع بما هو مناسب هو شبه تعطيل وإخلال للوجود والنمو المؤسسي. والتنفيذيون وإن كانوا مولِّدين للقرارات، إلا أنهم لا يصلحون بأن يتخذوها دون فكر ريادي قادر على قياس أبعاد أخرى غير حفل نهاية إنجاز العمل. ما برهنت عليه معظم الدراسات أن مثلما ليس كل تنفيذي يستطيع أن يكون قياديا، أيضا ليس كل قائد يستطيع أن يكون تنفيذيا، الأمر جلي أنه تكاملي وليس منفردا. يرى البعض وأنا أؤيد ذلك أن المناصب القيادية ليست فقط شهادات أكاديمية أو استحقاقا بقدر ما هي مهارات؛ فالقائد يبرُز من قيمِهِ الشخصية، ومرونة ذكائه، وما يؤمن به من مبادئ يترجمها في سلوكه بكل شفافية، وأبعاد رؤاه، والنزاهة والبذل والعطاء الفعلي، وعلى رأس هذا وأكثر اعتناقه لجوهر الصالح العام طويل الأمد قبل أي أمر آخر.

يرى الغالب أنَّ على كل جهة أن تضع إستراتيجيات وقائمة بما يلزمها على المدى الطويل وليس "المتوفر"، خاصة وأنَّ مقاعد القيادة لا تنتقل بسهولة؛ فالقائد منذ لحظة تعيينه يبقى كذلك إلى أن يتقاعد، وإن تدهورت أوضاعه، وفي الغالب يحدث ذلك بحكم تسارع مجريات التجارة وذكاء المرونة، نجد قرار نقله من حقيبة قيادية إلى أخرى دون مراعاة لأهمية الاستدامة والتوازن بين الموظف وبقاء الشركة أو المؤسسة؛ أي الصالح العام.

... إنَّ للتمكين أنواعًا كثيرة؛ فهو قد يكون منح سلطة، أو تفويضا للتحكم في بيئة عمل؛ بحيث يكون من الممكن اتخاذ القرار في المنطقة التي يتحكم بها الشخص ومسؤولا عنها، لذلك وجب التطور وتغيير مفهوم "المدير مدير إلى التقاعد".

--------------------

جسر:

"إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا".

بعضٌ مني.. قال لي ناصحٌ: "المثالية حجر عثرة، ويجب عدم التمسك بها حتى وإن كان من الممكن تحقيقها، والإقرار بالنقص فضيلة... وانظري إلى الأمور من خارج معمعة الفعل إلى فضاء النتائج"، وقالت لي صديقتي أن أتعلَّم "اللف والدوران" لأستطيع أن أستمر، وهي سوف تعلمني ذلك، بيد أننا لم نتفق على الأمر لوجود قيم متمكنة ومعايير عالية طويلة الأمد، ولا أجيد الحياة القصيرة بحكم إيماني بأنني خالدة.. ثلاثة أساسيات لا أستطيع أن أَحِيد عنها: حب الله قبل أي خلق، السعي لرضا الله قبل رضا أيٍّ من كان، وقول الحق بغض النظر عن أية أحداث.

الحقيقة لن تكون جميلة بأي لغة قُدمت أو بأي أسلوب جُملت.