حنَّ قلبي للمُصافحة

حسن بن علي العميري

 

بعد مُرور قُرابة الشهرين على أحداث "كورونا"؛ اتصل بي صديقٌ عزيز، لم ألتقِ به منذ أشهر عدة. قال لي: تخيَّل.. لقد اشتقت شيئا مما كُنت ألومك عليه.. لقد أحسستُ بقيمته الآن أكثر من أي وقت مضى!

وصديقي هذا، نموذج فريد في شفافية الروح، وإرسال النفس على سجيتها في مواقف كثيرة، لا سيما مع أهله وأصدقائه وزملائه المقربين، يُفاجئهم بأسلوبه الظريف بما يعتمل في نفسه تجاه حركةٍ بدت من أحدهم في موقف ما، أو كلمة سمعها من آخر في حديث دائر، أو شيء لم يَقْبَل أن يمر عليه مرور الكرام؛ مما قد ينتبه له كثير منا، لكننا نحجم عن إبدائه -في أكثر أحوالنا- لأمر في النفس، أو لغيرها من الأسباب المفهومة في مثل هذا السياق.

يصدر صديقي في سلوكه هذا عمَّا طبعت عليه روحه الجميلة، ويعبر عنه بأريحية ظاهرة دون تكلف ولا مواربة، بأسلوب ظاهرُه النقد وباطنه المحبة والفكاهة التي لا تخفى على السامع، يقول ما يريده ضاحكا أو وهو في حال أدنى إلى الضحك.

قلت له مرة، وكنا نتحدث عما يَرِد في الكتب وصفا لبعض الناس من أنه "كان أشبه الناس سريرةً بعلانية": أنت أحد هؤلاء.. أنت من فئة الناس الذين (باطنهم كظاهرهم).. شخص شفاف!

لقد كان من حظي السعيد أنني صحبت صديقي هذا سنوات عدة في محطات مختلفة، فما اختلف طبعه هذا مذ عرفته. وفي أوائل أيام المعرفة بيننا، حيث كانت علاقتنا أشبه بالرسمية؛ كنا نلتقي أول الصباح، فنتصافح ونتبادل التحايا المعتادة، ثم قد يستجد من الشؤون بيننا ما نحتاج معه إلى اللقاء بعد لقائنا الأول مرتين أو ثلاثا، كما هو شأن زملاء العمل؛ فما أكاد أدلف إلى مكتبه متلفظا بألفاظ السلام حتى أمد يدي إليه مصافحا، كما هي العادة التي تربيت عليها.

فربما بلغت حصته في اليوم الواحد من المصافحة أربع مرات تقريبا، دون أن يُشعرني هذا بتأنيب الضمير -بطبيعة الحال- فيما كان صديقي هذا ينتظر اللحظة المناسبة ليعبر لي عن احتجاجه -وهو ابن المدينة- على هذه البرمجة القروية التي يراها متعبة.

وحين تكرر الأمر غير مرة، وزال ما بيننا من الكلفة؛ أعلنها بصوت واضح وصريح: "أسألك: ألا تَمل من المصافحة؟.. مرة واحدة تكفي يا أخي؛ صدقني.. ما هذه الهواية العجيبة؟"، ومن يومها اتفقنا -بعد أن بدت نواجذنا من الضحك ذلك اليوم، على معاناته من ناحية وعدم شعوري بها من ناحية أخرى- على أن نتصافح مرة واحدة، ولكن هذا احتاج -بالطبع- لبرمجة جديدة، كما هو حالنا اليوم -في ظل كورونا- حيث نكبح جماح اليد أن تمتد للمصافحة على غفلة منا.

وفيما تلا ذلك اليوم التاريخي من شهور وسنوات؛ كانت ذكرى تلك الحادثة الظريفة تثور في مواقف مختلفة بين حين وآخر. وقد كانت آخر ثورة لها أوائلَ الأيام التي أُعلنت فيها التوجيهات الصحية التي تقضي بعدم المصافحة؛ فقد أرسل صديقي هذا في إحدى مجموعات الواتساب التي تجمعنا بعدد من زملاء العمل السابقين: "الله يعين حسن العميري حتى نتجاوز هذه الفترة على خير.. المصافحة المتكررة من أفضل الهوايات عندهم!!".

وعودة على ما ذكرته أول هذا الكلام من اتصاله، بعد أن سادت هذه القيم الجديدة في التحية، فلا مصافحة ولا اقتراب، حتى بين أفراد البيت الواحد؛ قال صديقي: "لقد شعرت بالحنين إلى سماع صوتك. تذكرتك إذ رأيتنا ونحن في البيت ليس بيننا من المصافحة والاقتراب ما كان.. ياه؛ أي شعور بالوحشة!.. لقد حن قلبي إلى المصافحة".

كأنما أراد صديقي العزيز أن يقول: "إن في المصافحة قدرا كبيرا من الإنسانية"، أو أن يقول: "كم تُرَغِّبُنا أيامُ الشدة في معانٍ خَيِّرة طالما رغبنا عنها أيام الرخاء"، أو أن يقول، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن إذا لقي المؤمن فسلم عليه، وأخذ بيده فصافحه، تناثرت خطاياهما كما يتناثر ورق الشجر"!

 

@HassanAlOmairi

تعليق عبر الفيس بوك