ناجي بن جمعة البلوشي
اعتادتْ السُّلطات في أي دولة من دول الاقتصادات الضعيفة، ومن أجل الارتقاء عن التصادم مع الأزمات الاقتصادية والمالية، التفكير في القوانين والإجراءات التي تؤثر على القطاع التالي لها، فعِندما تظهر معضلة ما في أي اقتصاد ضعيف يُسارع كل المسؤولين عنه إلى اتخاذ القرارات الصابَّة في صالح النأي عن المعضلة، وتركها في أحضان الآخرين من القوى التالية، الذي بالعادة ما يكون القطاع الخاص، وهذا يعني لهم النجاة دائما، لكنهم لم يفكروا يوما بأنهم عندما يقومون بمثل هذا التفكير والحلول السريعة واللحظية هم في الحقيقة يقومون بفتح جبهة من المشاكل المستقبلية، والتي لا يقدر على حلها القطاع العام وحده، مهما بلغ قوة المفكرين والقائمين عليه، وقوة العوائد المالية معهم.
فهنا في سلطنة عمان، ومثال مشكلة الجائحة الوبائية لمرض "كوفيد 19"، مع تهاوي أسعار النفط العالمية، يقترب الوضع من الأمثلة التي سبقت وعشناها في الماضي القريب الذي تعرضت فيه السلطنة في العام 2014-2015 عندما تهاوت أسعار النفط العالمية وقامت الشركات العاملة في القطاع النفطي بتسريح الأعداد الكبيرة من الموظفين مع إنهاء كامل خدماتها في هذه البقعة من الجغرافيا العالمية، عندها اتَّخذ مجلس الوزراء المؤقر كثيرا من الإجراءات التي ساعدت على تخطي هذه الواقعة، ثم تكررت أكثر من مرة ومرة على مدى السنوات الماضية.
ولأنَّنا اليوم نَعيش في مُعضلة مُشابهة أو أكثر صعوبة؛ لأنها مزدوجة، لكنها في النهاية تحمل نفس المعنى تقريبا وتكون أكثر شمولية، نجد أنَّ الحلول تتشابه هي وما سبق من تجارب تقريبا فمبدأ تقليص النفقات وتوقيف المناقصات وتخفيض فرص الأعمال وتقليل المشتريات...إلخ، والضغط على القطاع الخدمي في تقليل القيمة الحقيقية مع تقديم نفس الخدمة أو تقديم الخدمات كاملة مع تأخير المستحقات لزمن بعيد بمبدأ ترحيل المستحقات إلى زمن غير زمنها؛ فبمثل هذا المبدأ وما سبقه نرى أنه أصبح مبدأ مفروغًا منه وقديمًا ولا يتجاوب مع طبيعة وواقع البلاد؛ فالبلدان التي بها النشوة الإنسانية كثيرة، خاصة من فئة الشباب، وبها أعداد العاملين على حسابهم كبيرة، والباحثين عن عمل والخريجين في تزايد مستمر، لا تكون مثل هذه الحلول نافعة؛ فهي تنفع لبلدان بها العكس من ذلك، ولأننا اليوم محتاجون للقطاع الخاص والاستثمارات أكثر من حاجتنا له في أي وقت مضى، كما تزداد حاجتنا لجذب الأكثر من الشركات والمستثمرين الى بلادنا اليوم، فهو واقعًا أكثر من حاجتنا لهم في يوم تكون فيه كل الدول بها من التسهيلات والأعمال والفرص الاستثمارية متوفرة وشاغرة.
كما أننا نراعي كل الأسباب المالية والعوائد المالية من هذا الانتقاد الذي قد يكون غريبا على ما اعتادته العقول، فكيف يكون في المشاكل فرص ومكاسب إن كان من مسماها لا يعني شيء من الكسب، لكنه هو هذا الواقع، وما كان يجب على كل المفكرين في الحلول أن يتخذوه في طرق الحلول "المكاسب أولا".
ولشرحِه هُنا، فانَّ المبدأ الذي يعمل به في كل مرة يعني الضغط على القطاع الخاص حتى ينصاع لكل الإجراءات اللازمة والمؤدية لتقليل النفقات والإنفاق دون إلقاء بال بالقطاع الخاص هو من يُسهم في مكونات التنوع التجاري والاقتصادي، وهو من تكفل باحتواء أعداد كبيرة من الباحثين عن عمل، وهو مدور العجلة الاقتصادية في الداخل المحلي، ويعمل من الداخل إلى الخارج والعكس، فباتخاذ مثل هذه الإجراءات والمبادئ يكون المتأثر الحقيقي هو المنفذ لها، وهو هنا القطاع الخاص؛ لأنه المنفذ لتلك القرارات والإجراءات، وهذا يعني أنه من يدفع الثمن في كل مرة، وعليه الآن إدارة النفقات الخاصة به، وهي ما تكون بين بابيْن أحلاهما مُر؛ فإمَّا الثبات طويلا حتى النهاية، أو أنه سيُغلق الأبواب من أثر قلة الأعمال وزيادة الإنفاق، ما يعنيه في كل مرة نفس النتائج تقريبا، هذه النتائج التي هي في واقعها تختلف عواقبها من زمن لآخر دون الاختلاف في المكاسب، فهي تكبح النفقات فعلا وهذا هو المكسب الدائم، لكنها تختلف في العواقب؛ فعندما تكون مثل هذه الإجراءات في سنة 1985م فإنها في الحقيقة لا تعني سوى تقليل الإنفاق فقط، أما عندما تكون هذه الإجراءات في زمن 2015م فإنها تمثل فقط خروج بعض الشركات النفطية من السوق المحلي وتواجد عدد من الباحثين من أثر خروج هذه الشركات، بينما تكون هذه الإجراءات في سنة 2020م مختلفة اختلافا شاسعا، على الرغم من تقارب 2015 من 2020؛ وذلك لاختلاف مكونات القطاع الخاص نفسه؛ فهنا القطاع الخاص يحتوي على أعداد كبيرة من العاملين العمانين إن كانوا أولئك العاملين من أصحاب الشركات الصغيرة والمتوسطة، أو العاملين في الشركات الجديدة وحديثة النشأة في السوق المحلي، كما تزامن وجود الشركات حديثة الاستثمار مع تزامن وجود قوانين وجذب استثمار جديدة، وهذا حدث تَوافقا مع تهيئة ووجود مواقع استثمار جديدة ومناطق حرة...إلخ، كما أنَّ هذا كله ينسجم مع خطة وإستراتيجية قومية طويلة المدى تستهدف جذب الاستثمارات، وتنويع مصادر الدخل، وزيادة ثقة المستثمرين...وغيرها من الأهداف التي في حقيقتها لا تتناسق هي وإجراءات المبدأ القديم في هذا الزمن كما أوضحت.
فسابقًا، أو في الزمن القديم، عندما تندثر الشركات المتخذة للخيار الثاني -وهو الانسحاب من السوق، وإغلاق الأبواب- من أسباب الإجراءات والشروط الجديدة من القطاع العام، كانت في نفس الزمن تظهر بدورها الشركات الوفية والمتعاونة مع القطاع الحكومي في كل مصاعبه، وهي عدد قليل نعرفه جميعنا، حتى نظن بأنه تبقى هنا ليجازف فيما تبقى له من قوة بقاء، لكنه في الواقع غير ذلك، فهي شركات تأسَّست من قبل ومنذ زمن بعيد، وبها أنواع كثيرة من أنواع القوة كقوة التنوع في العوائد المالية من أثر أعمالها في قطاعات متعددة، أو أنها تمتلك استثمارات متنوعة، أو لها فروع دولية، أو أنها ذات رؤوس أموال ضخمة من أثر الأحتواء التجاري الدائم في كل الأنشطة في الأعمال؛ لذلك هي ستستفيد من تلك الأزمات في فتح أنشطة في المستقبل لتغطي طلبات القاع العام من تلك الخدمات، والتي كانت في أصلها من خارج البلد ولشركات أخرى، كما أنها ستبقى مع المشاكل الاقتصادية العابرة دون أي خسائر حقيقية، لكنها ستخسر الفوائد المحسوبة بالزمن فقط.
أمَّا اليوم، فالوضع مُختلف اختلافا شاسعا وواضحا؛ فبمثل هذه الإجراءات ستكون العواقب واضحة في تقليص عدد شركات الأعمال في القطاع الخاص، وانخفاضها من الأعداد الموجودة اليوم إلى عدد بسيط، من بعد كل هذه الإجراءات؛ مما سيُؤدي مباشرة إلى قلة المنافسة والفرص التجارية وقلة شواغر التوظيف مستقبلا، كما أن اليوم يختلف عن الأمس فيما يمكن أن يفعله أصحاب تلك الشركات (الشركات الوفية)؛ فالذي يستطيعون فعله في السابق لا يُمكنهم فعله اليوم للمستقبل، فليس بإمكانهم احتواء كل أبناء الوطن في شركاتهم، وليسوا بقادرين على فتح كل آفاق الاستثمارات، ولا يمكنهم التواجد في كل بقعة من بقاع الاستثمار، ولا يمكنهم أن يشكلوا الشركات الصغيرة والمتوسطة، ولا شركات التصنيع العالمي، ولا شركات المناطق الحرة، ولا غيرها من مجمل القطاعات التي تخوضها دولٌ في بعض الأحيان لا شركات.
ناهيك عن هذا، ما ستلاقيه الحكومة ذاتها من مشكلات مستقبلية سنجدها تسير معنا في نفس الإطار؛ ففاقدو الوظائف والأعمال إن كانوا من المنتسبين للشركات الصغيرة والمتوسطة، أو الفاقدين لوظائفهم، سيشكلون رقما جديدا بعد فترة من الزمن، وهم من سيكونون على أعتاب أبواب الحكومة لتجد لهم حلًّا نافعا، كما أن البدء والعمل مجددا في بناء الثقة بالاستثمار والمستثمرين في آلية جذب الاستثمارات من جديد إلى أرض الوطن لفتح الأنشطة التجارية المتنوعة أولا، ولاحتواء أعداد الخريجين والباحثين عن عمل ثانيا، لعَمَل شاق للغاية، ويحتاج إلى زمن بعيد ومجهود عظيم، كما سيظهر النقص في تكافؤ الفرص في الأعمال؛ فلا يمكن لشركة جديدة دخلت السوق اليوم أن تُقارع شركة مكثت في أيام الأزمة بثقة في الأقوياء ورد الجميل لهم وغيرها من عناوين الاستقناع، الشركات الصغيرة والمتوسطة تحتاج إلى من يبنيها من جديد، وهذا شأن يحتاج إلى عودة الروح في المواطنين أنفسهم، وبمثل هذه المشاكل المستقبلية سيكون لنا واقع نتصادم معه على الرَّغم من أننا هربنا منه اليوم. أما إذا قسنا كل هذا في إطار الزمن والنهضة، سترانا نرجع مجددا إلى ما قبل أكثر من عشرين سنة ماضية، وهذا قاسٍ جدا، فما كان لنا أن نتوقف مع الزمن حتى نوافق على العودة إلى الوراء؛ فنحن ولدنا في أرض تتقدم كل لحظة من الزمن.
لهذا؛ كان يجب علينا النظر بركيزة واسعة وعميقة، ونحن هنا نقدم ما نراه مناسبا من وجهة نظرنا، عسى أن يراه المختصون من رؤيا أكثر شمولية، ليتخذوا المناسب دائما قبل الوقوع في أفكار الماليين فقط.
وليُنعِم الله علينا بفضله وبركاته في شهره المبارك بأفكار تقي عُماننا كل مكروه، حفظ الله عمان شامخة أبية، وحفظ أبناءها الأعزاء، في ظل القيادة الحكيمة لمولانا السطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه.