تكامل وتكافل

 

 

أحمد بن سالم الحوسني

كُنت في حوار مع صديق عزيز قبل عِدَّة سنوات، كان الحوار ممتعاً، إلى أن فاجأني بقوله: "إنني أدعو الله بعد الصلاة أن يشتد الحر"!!، سألته: لماذا؟ قال: حتى يطيب تمري، ويغدو بأفضل أحواله! قلت: وكم تملك من النخيل؟ قال: واحدة بالطناء!!

إنَّنا كثيرا ما نحني رؤوسنا، فلا نرى إلا مصلحتنا، ولا يهمُّنا أن نحسب حساب غيرنا أو نراعي مصالحهم.

ازدياد الحرارة فيه ضرر على تجار الحلويات وتجار الخضراوات والفواكه والبائعين المتنقلين وغيرهم، ناهيك عن الفقراء وذوي الدخل المحدود ممن لا يستطيعون دفع فواتير الكهرباء إذا زادت على المعتاد! 

وكان يكفي صاحبنا أن يدعُو الله أن يصلح له تمره ويحفظه له، دون أن يتدخل في كيفية تدبير الله لذلك، ودون أن تخرب نصف المدينة من أجل نخلة لا يملكها، وإنما اشترى ثمرتها!

إنَّ مثل هذا التصرف يجعلنا نبرِّر للطبيب -صاحب العيادة الخاصة- أن يدعو الله أن تزيد الأمراض والأوبئة! وللمحامي أن يدعو بزيادة المشكلات! ولصاحب ورشة التصليح أن يدعو بزيادة الحوادث! وللتاجر أن يدعو بأن تنقطع حاجات الناس وأغراضهم إلا من عنده!

كلُّ هؤلاء يكفيهم أنْ يدعو الله بأن يوسع عليهم في الرزق، وأن يزيدهم من واسع فضله، دون تجاوز إلى ما فيه ضرر على غيرهم، وربما على أنفسهم وأهليهم من حيث لا يشعرون، ولعلك سمعت من يدعو الله أو يرجو أن تنخفض أسعار النفط لكي يقل سعر وقود سيارته مع ما يحمله ذلك من تأثير كبير سلبي على حياته وحياة كثير غيره.

 ورُبما هناك من وجد خيراً أو رزقا أو مصلحة في نزول الوباء والبلاء، فبادرتْ نفسه إلى تمني بقائه واستمراره، مع ما فيه من ضرر كبير على الناس.

انتبه إلى تصرفاتك وتريث قبل أن تدعو أو ترجو "ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا".

تخيل لو أنَّ الله أراد أن يجيب كل أدعية أهل بلد ما؛ أتراه كم سيجد من الأدعية المتعارضة؟!! "ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم" الحمد لله أن لدينا رباً رفيقا بنا "الله لطيف بعباده".

نحن في حاجة إلى وعي وإدراك لكيفية ارتباط الأمور ببعضها، ووعي بأننا لا نعيش وحدنا، هناك من نتأثر بهم ويتأثرون بنا، نحن مجتمع واحد وأمة واحدة، علينا أن لا نكسر بعضنا لنتقدم ولا نعتلي رقاب بعضنا لنرتقي، فكلنا في سفينة واحدة، من خرقها ليحصل على الماء وحده أغرقنا معه.

إننا بلا شك في حاجة اليوم -أكثر من أيام مضت- لأن نتعاون فيما بيننا، ونهتم ببعضنا البعض، وأن نحقق مفهوم التكافل الاجتماعي فكرا وقولا وعملا.

 تفهّم الآخرين وتعاون معهم على الخير والبر "وتعاونوا على البر والتقوى".

من أنبل الأمور التي مرَّت عليَّ أني مررت ذات مرة على محطة وقود في منطقة صحراوية، فأبى عامل المحطة أن يبيعنا سوى قدر معين؛ إذ بلغه أن أكثر المحطات باتت خاوية بسبب أمر غير معتاد، وقال لنا بأن القدر الذي يبيعنا إياه كافٍ لإيصالنا لمحطات المدينة التالية، وأن ما لديه من وقود يفضل أن يوزعه على أكبر قدر من السيارات حتى لا تنقطع بها السبل. لقد سعدت يومها لأنه لم يفكر في مصلحة نفسه بأن يبيع ما لديه فحسب ويريح نفسه من عناء الانتظار.

ضع نفسك مكان أخيك.. "لا يُؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، تخيل نفسك في موقفه، لا تستغل ظروفه، ولا ترفع عليه سعرا لحاجته، ولا تبخسه ثمنا إن باع لمسغبته "ولا تبخسوا الناس أشياءهم".

لا تؤذ مشاعر العامل أو الموظف الذي كنت في يوم من الأيام محتاجاً إليه، فكان لك خيراً مما طلبت، لا تتخل عنه وهو لم يتخل عنك، فإن كان لا بد من البَين والفراق فطيّب خاطره "ولا تنسوا الفضل بينكم".

 تفقَّد حاجة أخيك، فرُبَّ محتاج إليك اليوم يكون مُنقذك غدا، فازرع مع القدرة ما ينفعك مع العثرة.

ثمة أفكار جميلة لدى بعض العوائل في إنشاء صناديق تعاونية وجمعيات تكافلية، يدفع فيها المقتدر ليأخذ منها المحتاج، وقد يعود المقتدر محتاجاً والمحتاج مقتدرا.

قبل فترة، حدَّثني أحدهم بأنه أسس مدرسة خاصة، ورأى بعد فترة من الزمن أنه لا يحقق ربحا، بيد أنه ترك المدرسة ولم يغلقها؛ لأنها كانت تدفع رواتب الموظفين الذين كانوا يعيلون أسرهم منها.. ما أجمل مثل هذه الأفعال!

أكرم بتاجر يتوسَّع في تجارته لإيجاد وظائف للباحثين عن عمل ولتنشيط اقتصاد بلده، وتوفير السلع والخدمات لمجتمعه، وإنه لمن الأنانية أن يعزف التجار المهرة عن التوسع في التصنيع والتجارة مع قدرتهم على ذلك. إن التوسع مع عدم الاستغلال أو الاحتكار لهو من أعظم سبل التكافل المجتمعي.

هنالك أمثلة كثيرة محفزة للتكافل الاجتماعي علينا أن نشجعها ونحتذي بها؛ من جمعيات خيرية ولجان للزكاة، وفرق تطوعية، وصناديق تكافلية. والخير في هذا الباب كبير ويشمل كل من سعى فيه بمال أو جهد، يقول المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة، كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئاً". وقال: "الخازن الأمين، الذي يؤدي ما أُمر به طيّبة نفسه، أحد المتصدقين".  

تلمّس حاجة أهلك وإخوانك وجيرانك ومجتمعك، وقدّم لهم ما تستطيع من عون ومساعدة.

 كن معهم بقلبك أولاً، متفهماً لحاجاتهم، مقدراً لأوضاعهم، ادعُ لهم بالخير، وارجُ لهم التوفيق. وبادر بالأفكار التي تصلح من شأنهم.

تبرَّع بشيء من مالك ووقتك وجهدك، وأخلص نيتك لله، واعلم أن الصدقة خيرها كبير وإن صغرت، وفضلها عظيم وإن حقرت، ولا ينبغي تحقيرها "يا نساء المؤمنات لا تحقرن إحداكن جارتها ولو كراع شاة محرق"، "لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدي إلي كراع لقبلت".

 تذكر أنك عندما تمد يدك لأخيك فإنك تمدها إلى الله: "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة".

وكرم الله واسع، إن رآك تكفل غيرك تكافل معك، وإن رآك تيسر على غيرك يسر عليك "من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة"، وكان في عونك "والله في عون المرء ما كان في عون أخيه".

ولننتبه، فليس من المعروف أن نعيِّر غنياً أو صاحب عمل أو تجارة؛ فإنا لا نعلم ظروفه.. فادع للخير بالمعروف، ولا تحرج أحداً بأن يتبرع أو ينفق بدعوى أنه انتفع من الدولة، فربما هو نافع للدولة أيضاً، بتصنيع المنتجات، وتكثير الطلب على العملة المحلية، وتوفير الوظائف، ودفع الجمارك والضرائب، وإخراج الزكاة، والدعم الاجتماعي، والمشروعات الخيرية التي يرعاها، وليس كل أحد يحب أن يشهّر بما يفعل من خير.

قبل فترة توفِّي أحد الميسورين، واكتشف أولاده -بعد وفاته- الكم الهائل من الأفراد والعائلات الذين كان يرعاهم، وينفق عليهم بصفة شهرية دون أن يعلم به أحد.

ولا تعيّر من أنفق بقدر ما يجد "ما على المحسنين من سبيل".

وقد قيل: عندما ترفع أصبعك مشيراً إلى تقصير أحدهم، تأمل يدك سترى أن ثمة ثلاثة أصابع تشير إليك.

روي أن الإمام غسان بن عبدالله - رحمه الله (ت 207هـ) رأى ذات يوم بعض الطحالب في غيل بواد مر عليه في نزوى لم يكن قد عهده، فقال في نفسه: إن هذا أثر عن تغيير وقع في البلد، فأحضر أهل الأموال (النخيل والمزارع) وقال لهم مختبرا: أنا أريد حرب الهند، وبيت المال لا يكفي، وأريد أن أجعل على التجار قرضاً يكون أداؤه من بيت المال، فقالوا: التجار يسعون بالفائدة، وإن قلت أموالهم ضاعت المعاملة بيننا وبينهم، ونحن أرباب الأموال والقرض علينا بما تريد. فقال في نفسه: لا غِيَر هاهنا، ثم أحضر التجار وقال: أريد أن أحارب الهند، وخزانة بيت المال لا تكفي بمقام الحرب، وأناظركم أريد أن أجعل قرضا على بيت المال لتقويم هذه الحرب من أرباب الأموال، فما ترون؟ فقال التجار: أصحاب الأموال أهل حرث، وأكثر الحروث لا تكفي مغرم ما عليها، وليس في أيديهم شيء مما يكفي لذلك، فقال الإمام: لا غِيَر هاهنا، ثم أحضر الوزراء وأرباب الدولة، فقال: أريد أن أجعل قرضاً على أرباب الأموال والتجار في بيت المال لحرب الهند، فما ترون؟ فقالوا: هذا شيء وقع في قلوبنا من قبل، فقال في نفسه: الغِيَر من هاهنا، فاستبدل بهم غيرهم، فلما مر في الجمعة الثانية على الغيل لم ير شيئاً، ورأى الماء زائداً عن أصله.

فانتبِه، فربما إشارتك إلى غيرك دليل إلى تهمتك.

لنكُن عونًا لبعضنا البعض في القول والفعل والدعاء، ولننفق في أوقات السعة وفي نزول البلاء، ولا يحرج أحدنا الآخر، فإننا لا نعلم بكل أحواله، ولسنا مُطلعين على كل أفعاله، والخير في الناس موجود، فعلينا أن نحفّزه لا أن نستفزّه.

تعليق عبر الفيس بوك