عبدالنبي الشعلة
تبًا لفيروس كورونا الذي حَرَمنا في هذا الشهر الفضيل من متعة زيارة المجالس والخيم الرمضانية والاجتماع بالأصدقاء والمشاركة في الغبقات، وشكرًا له لأنه أتاح لنا في المقابل الفرصة للتمتع بالمزيد من الدفء الأسري، وملازمة بيوتنا، والاستمتاع طوعًا أو قسرًا بمشاهدة ومتابعة البرامج والأفلام والمسلسلات الرمضانية بانتظام.
ومن بين هذه البرامج فقد شدتني بالذات حلقات مسلسل كويتي متميز يتم في هذا الموسم الرمضاني بثه من خلال شبكة إم بي سي التلفزيونية، وصرت وما أزال أحرص على مشاهدته ومتابعته مساء كل يوم بعد الإفطار؛ وهو المسلسل الكويتي "محمد علي رود" أو "شارع محمد علي".
ولا أدري كيف وإلى ماذا ستنتهي هذه الحلقات، إلا أن رسالة هذا العمل الفني الدرامي الأضخم خليجيًا تتجه إلى تأكيد الانتصار الحتمي للإرادة في مواجهة الصعاب والتحديات، وللحب عند تغلبه على الكراهية والبغضاء، وللخير والحق في صراعهما الدائم مع الشر والباطل.
وتقع أحداث المسلسل في مرحلة زمنية زاخرة بالتقلبات والتحولات والتي شهدت اندلاع وانتهاء الحرب العالمية الثانية، وتدور أحداثه بين مدينة الكويت ومدينة بومباي التي أصبح اسمها الآن مومباي.
وفي قالب تشويقي وحبكة أو معالجة فنية متميزة تُسلط قصة المسلسل الضوء على حركة التجارة وتنقل التجار الكويتيين بين الكويت والهند في أربعينات القرن الماضي، وعلى التقاطع والتداخل في علاقة التجار الكويتيين ببعضهم بعضًا والمنافسة والصراع الذي كان يدور بينهم، وتتطرق بجرأة إلى عمليات تهريب الذهب إلى الهند التي كانت رائجة في تلك الفترة والتي كان تجار الخليج ونظراؤهم أو شركاؤهم الهنود يعتبرونها نوعًا متقدمًا من الشطارة والمغامرة التجارية وليست جريمة، كما يلامس هذا العمل الفني مختلف أوجه الحياة بتنوع تلاوينها ومضامينها وقيمها وعاداتها وتقاليدها، ويناقش العديد من مواقف وقضايا العلاقات الاجتماعية والإنسانية، مثل الحب والغيرة والانتقام والخوف والعنف الأسري والإيثار والطمع والجشع وما شابه، والتي كانت سائدة في ذلك الوقت، كما هي سائدة اليوم، في المجتمعات الخليجية كغيرها من المجتمعات.
وقد قَرعت هذه الحلقات نواقيس الذاكرة لتعيدنا إلى أحضان تراث الآباء والأجداد وأيام تعبهم وكفاحهم المرير من أجل كسب لقمة العيش، ورباطة جأشهم في وجه الأخطار والتحديات والصعاب والأزمات، وتمكنهم من اقتحام الأسواق الهندية في ذلك الوقت، والتي تصارع على اقتحامها من قبل أشرس القوى الأوروبية والاستعمارية، كما نجحوا في التعاون والتعامل السلس مع نظرائهم من التجار الهنود المتمرسين أو منافستهم في عقر دارهم.
إن ارتباط التجار الكويتيين والخليجيين عمومًا وعلاقتهم بالهند؛ وبالتحديد بمدينة بومباي وشارع محمد علي، اكتسبت أبعادًا وجدانية عميقة في عقد الثلاثينات من القرن الماضي بعد أن انهارت في الخليج تجارة اللؤلؤ الطبيعي على أثر غزو اللؤلؤ الياباني المستزرع لأسواق العالم؛ ما أدى إلى تصدع دعائم الاقتصاد في الكويت وفي الدول العربية الأخرى في الخليج العربي، وتعثر النشاط التجاري وتعطل حركة السفن، فلم يستسلم التجار الخليجيون لليأس، وخصوصًا التجار الكويتيين، بل وجهوا نشاطهم واهتمامهم نحو التجارة والنقل البحري، وساهموا في إعادة تشكيل وهندسة الاقتصاد الخليجي بمبادرات ذاتية اثبتوا من خلالها كفاءتهم وجدارتهم، وانخرطوا في تجارة التمر ونقله من الإحساء والبصرة إلى الهند، والعودة بسفنهم محملة بالمنتجات الهندية من مواد غذائية وبهارات وأقمشة وأخشاب وغيرها من السلع والبضائع.
ويستمد مسلسل "محمد علي رود" قيمته وأهميته من تمكنه من إيقاظ الذاكرة الخليجية على الروابط والعلاقات الوجدانية التي تشدنا بالهند، وهَزِهِ لضمائرنا لتذكرنا بطروفنا الصعبة إبان الحرب العالمية الثانية وكارثة اللؤلؤ وبأيام الجوع والمعاناة، وبوقوف الهند معنا وفتحها لأبوابها لنا للعمل فيها، وإكرامهم لوفادة تجارنا وتعاونها معهم ومعاملتهم بتقدير واحترام؛ فلم يقل أحد منهم قط إننا بدو متخلفون، كما قال ويقول عنا بعض الأشقاء أحيانًا.
نعم، عندما كنا أو صرنا في الخليج نعاني من ضنك العيش وشح الموارد وضيق ذات اليد، وعندما كنا نطرق أبواب السماء طلبًا للغوث وللرحمة والرزق، وعندما كنا نبحث عن أبواب على الأرض لنطرقها لكسب الرزق ولسد الرمق؛ فتحت لنا الهند بابها على مصراعيه؛ وفتحت لنا أبواب قلاع التجارة والاقتصاد في لؤلؤة التاج البريطاني آنذاك مثل بومباي وكوجرات وغيرها، ولم يفعل الشيء ذاته أشقاؤنا العرب؛ ولم يفتحوا لنا أبواب مدنهم العتيدة مثل القاهرة الساحرة التي كانت وقتها مدينة مزدهرة تضاهي مدن أوروبا في قوتها ومكانتها الاقتصادية، وكانت تسمى "باريس الشرق" بشوارعها الفارهة التي كانت تغسل صباح كل يوم بالماء والصابون، وكانت أبواب الرزق وسوق العمل فيها مفتوحة لليونانيين والإيطاليين والفرنسيين وغيرهم، وكذلك كان حال قلعة الأسود بغداد ودمشق الفيحاء وبيروت العطرة.
ولذلك فإن أهل الكويت ما يزالون يتذكرون المثل الذي شاع في ذلك الوقت وتداولوه للدلالة على ما تعنيه الهند بالنسبة لهم. ويقول المثل: "الهند هندك إذا قل ما عندك" أي أن الهند يجب أن تكون مقصدك إذا ما ساءت أحوالك، فعن طريقها ستتمكن من إصلاح أحوالك.
ومنذ بداية الثلاثينات من القرن الماض أصبح محمد علي رود أو شارع محمد علي الميدان الذي شهد صولات وجولات التجار الكويتيين والخليجيين وانطلاقهم فيه ومنه إلى باقي المدن والمراكز الهندية والموانئ الخليجية وبعض الموانئ الأفريقية، وظل وجودهم وحضورهم فيه قويًا بارزًا نافذًا إلى أن أخذ في الانحسار تدريجيًا مع نهاية الخمسينات أو بداية الستينات، بعد أن بدأت ثمرات النفط الكويتي تتساقط بشكل ملموس على المجتمع الكويتي في بداية الخمسينات؛ حيث كانت أول شحنة منه قد تم تصديرها في العام 1946، كما أن الكويت قد نالت استقلالها في العام 1961 فبدأت الطيور تعود إلى أوكارها للمساهمة في بناء الدولة المستقلة الفتية ودعم اقتصادها مسلحين بالخبرة التي اكتسبوها في الهند وفي شارع محمد علي بالتحديد.
وللحديث بقية..