يوسف بن حمد البلوشي
لا شك أنّ القطاع المصرفي أحد أهم أدوات تمويل الحصول على رأس المال الذي يعتبر أحد أهم عناصر وعوامل ومحددات الإنتاج. والحصول على التمويل بتكلفة وشروط مناسبة هو الفيصل في قرار وتوجه الاستثمار. والاستثمار، بصفة عامة، هو صلب العملية التنموية حيث يؤدي إلى زيادة الطاقة الإنتاجية للمجتمع وفق قياسها بالناتج المحلي الإجمالي، ويضيف إلى تكوين رأس المال، وبالتالي زيادة المعروض من السلع والخدمات.
سأتناول في ثلاث مقالات واقع وآفاق القطاع المصرفي في السلطنة والحاجة إلى تحقيق نقلة نوعيّة في دوره كغيره من القطاعات الرئيسية ليس بغرض النقد وإنما لاستنهاض الهمم ورفع الطموح وفتح الآفاق لضرورة إحداث تغيير جوهري في إدارة القطاع المصرفي وصولاً إلى دور أكثر فاعلية في تحقيق التنمية الإقتصادية المستدامة في السلطنة في المرحلة القادمة. وهنا يمكن القول بأن إدخال بعض التحسينات على أداء بعض القطاعات ومن بينها القطاع المالي إجراء غير كاف، حيث توجد حاجة ماسة لإجراء عملية تحول جذري في أسلوب العمل التقليدي الحالي، وذلك لتعظيم الاستفادة من الإنجازات المحققة على مختلف الأصعدة والتي تحتاج إلى تكثيف نشاط الابتكار واستخدام أدوات وأساليب جديدة كانت غير معهودة أو كانت تستخدم على نطاق ضيق من قبل. وذلك لتتمكن السلطنة من الانتقال إلى نموذج جديد من النمو والتنمية المستدامة قائم بصفة رئيسية على (العمل والاستثمار والإنتاج) كبديل للنموذج الحالي القائم على (الحكومة والاستهلاك والاستيراد والعمالة الوافدة). كنموذج تتعدد فيه محفزات وقاطرات النمو بقيادة القطاع الخاص.
لا يخفى أنّ القطاع المالي (البنوك التجارية والمتخصصة وشركات التأمين وشركات التمويل والتأجير وصناديق التقاعد وسوق مسقط للأوراق المالية) المتطور يؤثر بشكل إيجابي على أداء الاقتصاد الكلي من خلال تعزيز كفاءة السوق وخدمات الوساطة المالية الفعّالة التي تحسن بدورها معدلات الإدخار، ومن ثم معدلات الاستثمار من خلال أدوات التمويل التي تتيحها. وتقوم المؤسسات المالية بدور هام كقنوات يتم من خلالها انتقال الأموال من أصحاب الودائع (المدخرات) - سواء كانو أفراداً أو مؤسسات أو حكومة - لتمويل المشاريع الموجهة للإنتاج السلعي والخدمات، بالإضافة إلى تلبية الاحتياجات الشخصية. ذلك أنّه مع زيادة الأموال الموجهة للاستثمار تنشط العملية الإنتاجية ويزيد معدل التوظيف وتزيد المبيعات، ومن ثم تزيد أرباح الشركات، وتزيد الحاجة إلى اقتراض المزيد من الأموال من البنوك وغيرها من المؤسسات المالية لأغراض التوسع في العملية الإنتاجية. وسوف يتمخض ذلك بالضرورة عن زيادة الناتج المحلي الإجمالي. وللوصول إلى هدف التنمية المستدامة يتعيّن أن تلعب الدولة دوراً نشطاً في إدارة القطاع المصرفي لأغراض تحفيز وتوجيه العملية الإنتاجية، وذلك من خلال تخصيص الائتمان بما يتفق مع الأهداف المرغوبة وبالتكلفة المناسبة.
وفي ظل جائحة كورونا والانخفاض الحاد في أسعار النفط وتداعياته على الاستقرار الاقتصادي والمالي والاجتماعي والحاجة إلى إحداث تغيرات جذرية في مختلف محفزات التنمية، وذلك من خلال الاهتمام بشكل خاص بالسياسة النقدية في السلطنة، وتقييم الآثار المترتبة على التوسع في الاقراض الاستهلاكي، مما يتطلب إحداث تغيير في إدارة القطاع المصرفي في المرحلة القادمة، وخاصة على التنمية الاقتصادية المستدامة وذلك في الأجلين القصير والطويل. وعند استعراض تجارب الدول التي نجحت في تحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة نجد أنّ القطاع المصرفي قد لعب دوراً محوريا في تسهيل الوصول إلى ذلك المستوى من النمو في مراحل التنمية المختلفة. ففي المراحل الأولى من التنمية تعمل المؤسسات المالية على توفير التمويل بالحجم المناسب وتوزيعه على القطاعات الاقتصادية الأكثر كفاءة، مسترشدة في ذلك بتوجيهات البنك المركزي ذات الصلة. وفي مراحل التنمية اللاحقة تقوم هذه المؤسسات بإعادة توجيه الموارد المالية التي توفرت لديها من استثماراتها التقليدية منخفضة العائد إلى المشروعات الإقتصادية الجديدة ذات العائد النقدي والاقتصادي المرتفع. ومع تقدم وتسارع وتيرة النمو الإقتصادي، تعمل المؤسسات المالية على تحسين نوعية وجودة خدماتها لمواكبة المستجدات على الصعيد العالمي، وتحقيق درجة عالية من التنافسية.
ولتقييم نجاح القطاع المصرفي في أي اقتصاد يجب الإجابة عن عدد من التساؤلات التي تطرح نفسها فإذا كانت في مجملها إيجابية فإنّ دور قطاع المصرفي إيجابي وأما غير ذلك فإن الأمر يستوجب تدخلا لإعادة مسار هذا القطاع لخدمة الاقتصاد الوطني، والذي إذا نما ستنمو معه أعمال وأرباح مؤسسات القطاع المالي والعكس صحيح. فهل تقوم البنوك بتوجيه المدخرات المحلية إلى الاستثمار وبناء طاقات إنتاجية محلية؟ وهل هامش سعر الفائدة (الفرق بين الفائدة على الودائع والفائدة على القروض) عادل للجميع؟ وهل حصول الأفراد أصحاب الأفكار التجارية وريادة الأعمال (مؤسسات الصغيرة والمتوسطة) على تمويل من البنوك سهل وفي المتناول؟ وما مدى حجم التعاملات والتسهيلات الممنوحة من البنوك للحكومة وموظفي الحكومة والشركات الحكومية بالمقارنة بالقطاع الخاص غير المجموعات التجارية المالكة للبنوك؟
بالتأكيد أنّ المساعي الرامية لتحقيق تحول اقتصادي إنتاجي يستوجب تطوير القطاع المصرفي بشكل جذري لتحفيز الادخار والتمويل والاستثمار وتعزيز دور البنوك وسوق مسقط في التنمية الاقتصادية، وعلى القائمين عليه إدراك أنّ الحصول على تمويل بأسعار فائدة وشروط مقبولة يمثل أهم عوامل النجاح لتحقيق نمو اقتصادي للسلطنة وربحية مستدامة للمؤسسات العاملة في القطاع المصرفي. سنتطرق في المقال القادم الى الإجابة عن بعض تلك التساؤلات وأبرز أهم سمات القطاع المصرفي في السلطنة.