وصلوا حتى ديترويت !




" إنَّ التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق "

(ابن خلدون)

الالتقاء والتحاور مع أصحاب العلم والمعرفة يزيد الفائدة ويعظم المعرفة، وينبه المعلوم لعلوم أكثر، حتى إن حدث اختلاف رأي فهو بالنهاية اختلاف علمي وموضوعي، فأهل العلم الحقيقيون لاينظرون للاختلاف إلا أنه صحة ودافع لمعرفة أكثر، وخبرة جديدة، هذا ديدنهم، وهذه طباعهم .
الالتقاء بمؤرخ أو باحث تاريخي أمر غاية في الفائدة والمتعة والاستزادة، خاصة إن كان هذا المؤرخ إنساناً" مبدعا" متفردًا" في إدارته للتأريخ الذي يعمل عليه، جل هذه النوعية تجد به تواضع العالم والبعد عن التكلف والبساطة والعفوية، لكن فعالاً "جادا" مع التاريخ، لذا تبدأ الحوارات ولا تنتهي الأسئلة .

كان الحوار حول حال المُؤرخين وتداخل السياسة المزري في حيثيات كتابة الأحداث وتأريخها، وكيف أنَّ المؤرخ عندما يكتب التاريخ يُلاحقه شبح السلطة والأمن، وكانت وجهة نظر المؤرخ بأن الحق يعلو ولا يعلى عليه، وبإمكان المؤرخ وضع نقاط تلميحية تكون سهلة للبحث لمن يرغب في التدقيق على الحدث، كإضافة أبيات شعر فيها تلميح، أو ذكر حادثة مشابهة وربطها، وغير ذلك من الحيل المشروعة للمؤرخ الأمين النزيه .
قلت: هذا شغل استخبارات وليس تأريخ، قال للأسف المؤرخ الأمين يحتاج أن يقوم بعدة أدوار من أجل تدوين صحيح للحقيقة، واحترام للحقبة التاريخية ومرتبطاتها من أحداث .
ثم انتقل الحوار للحديث عن التحليل التاريخي وكيف حال هذا العلم الذي ليس له تلك الشعبية بين الكثير، لصعوبته ولأنَّ له مداخل ومخارج وربط وضبط ويستوجب الدخول لحيثيات السياسة وأبجديات الثقافة ونزاعات المجتمع، والخبرة في الفلسفة وعلم الاجتماع ونظريات النقد، فهو علم شائك يصعب على المنشغل بالحياة، فهو يحتاج صفاء ذهنيا وطول بال واستبسالاً في البحث عن المعلومة وربطها وضبطها .
أذكر كنت أدرس إحدى مواد التاريخ الإسلامي التي تحوي مادة تاريخية غزيرة ومكثفة، وكان الأستاذ يركز على التحليل السياسي والتاريخي للأحداث، وكيف بني القرار السياسي، وسأعطي مثالا" مما درست :
الجغرافيا السياسية :
5 أقاليم رئيسية (4 أقاليم + أقليم جامد)
اليمن، الحجاز، عُمان، البحرين، نجد (أقليم جامد)
في الشمال :
المناذرة (في الحيرة)، الغساسنة (في تدمر)
_ كلهم عرب وأتوا من اليمن .
_ أكثر الهجرات هي هجرات بينية في معظمها .
_ أصول اليمنيين من قحطان/عدنان .
ثم الحديث عن هجرة الأزد الكبرى (القبيلة برمتها)
_ أسباب الهجرة أنهم كانوا مهيمنين على مدينة مأرب _ قسم منهم ذهب إلى عمان من مأرب وهم (أزد عمان)
_ البقية ذهبوا شمالا"، وسكنوا الحيرة وهم المناذرة، وتحالفوا مع الفرس بناءً على أتفاقيات .
_ المجموعة الثانية ذهبوا إلى جبل شنوءة قرب أبها .
_ مجموعة أخرى ذهبت إلى يثرب وهم الأوس والخزرج .وهم الأنصار
_ القسم الأكبر ذهبوا إلى بادية الشام وهم الغساسنة، جاءوا إلى تدمر وأصبحت عاصمتهم..
من خلال ماسبق وكتحليل تاريخي مختصر جدا"،سنجد أنَّ أصول تلك الجماعات من جنوب الجزيرة (اليمن) وأنه بالتأكيد سيجتمعون في عادات معينة، أو لهجة مميزة وحتى الدم واحد، لذلك نتذكر أننا عرب ومن بغداد لتطوان كما تقول الأنشودة الشهيرة، والتحالفات السياسية (فيما بعد) مع قوى خارج صلة الدم (الفرس) لم تغير من الأمر شيئاً فقط التأثير سياسيًا" ولفترة معينة أو لاتفاق معين وينتهي العمل بانتهائه .
إنِّما لو يلاحظ المتابع أن الكثير من الجماعات سالفة الذكر قد انتهى ذكرها مع مرور التاريخ، ربما لتغير في الأسماء فرضه تقدم السنين وظهور أسماء وشخصيات جديدة، أو لعوامل تشتت الجماعات نتيجة حروب أو أوبئة أو حتى بسبب الهجرات لطلب الرزق أو بسبب الخوف من الهيمنة لطرف منافس، فقد رأينا العرب ذوي الأصول اليمنية وصلوا الأندلس وموريتانيا وحتى دول مثل تشاد ومالي والنيجر فيها عرب، ولو تتبعت أصولهم ستصل إلى مآلها الأول من اليمن بجنوب الجزيرة .
سؤال افتراضي أخير: ماذا لو قررت هذه الجماعات العودة إلى أصولها لليمن أو للجزيرة؟
هو سؤال غير منطقي عطفا" على ظروف الحال، لكنه تاريخيا" يعتبر منطقيا، من كان يتخيل إبان تلك الحقب التاريخية أنَّ عرب اليمن سيصلون أدغال أفريقيا؟
أترك عنك أفريقيا، سأذهب بك إلى العالم الجديد وبلاد العم سام، هل تعلم أن عددا" لايستهان به من العاملين بصناعات السيارات الأمريكية الشهيرة بمدينة ديترويت هم من اليمن !
وصلوا حتى ديترويت !
للآن لم أحدثك عن أهل الشام ووصولهم لأمريكا اللاتينية، هل ستبتسم عندما أخبرك بأنهم حكموا الأرجنتين والبرازيل وحتى الإكوادور !
أكاد أشعر أنَّ كل بقعة في المعمورة بها من يتنفس العروبة وإن لم يتحدثها !
انتهى المقال ولم ينته الحديث مع الصديق المؤرخ ..


يوسف عوض العازمي
alzmi1969@