"كورونا" و5 مشاهد تاريخية

 

د. أحلام بنت حمود الجهورية

منذ دخولنا السنة الميلادية 2020 وكورونا يتنامى إلى مسامعنا من بعيد، حتى وصل إلينا وأصبح كابوسًا مُرعبًا يقضّ أمن المجتمعات كلها، ويُبدد هدوءها وسلامها واستقرارها في شتى المجالات. وهذا الحال ليس بالأمر الغريب أو الطارئ أن تواجه البشرية الأوبئة والأمراض؛ فمنذ قرون خلت والإنسان يُواجه مُختلف التحديات على كوكبه، من كوارث طبيعية وحروب وأوبئة، وهي في أغلب الأحيان من سوء صنيعه، سواء كان ذلك بشكل مُباشر أو غير مباشر من خلال تدخله في خلق الظروف المؤدية لها.

وبعد أن تحكّم الوباء المسمى (كورونا) في مفاصل حياتنا التي شُلت بسببه؛ استحضرت الذاكرة تاريخ الأوبئة في العصور الماضية وما صاحبها من أحداث وتداعيات في المجتمع، وقد حفّز عدم وجود دراسة تاريخية متخصصة حول الأوبئة في عُمان على التقصّي الحثيث والقراءة المُعمّقة في المعلومات القليلة المتاحة حولها؛ فالأحداث الجارية جعلت من الأوبئة بطلاً تاريخيًا يستحق أن يُستحضر ويُستنطق بالبحث والتحليل؛ للخروج بخطاب توعوي يبثّ الطمأنينة في المجتمع بصوت مفاده: نحن لسنا وحدنا، وما نمر به الآن مرَّت به شعوب وأمم قبلنا، وستمر به شعوب وأمم بعدنا. ومن جهة أخرى يبث هذا الخطاب الوعي بضرورة التقيّد بالإجراءات التي من شأنها الإسراع في عملية تجاوز هذا الوباء بأقل الخسائر البشرية والمادية؛ فالطمأنينة والسكينة تمكّنان الإنسان من مواجهة البلاء والانتصار عليه، وهو دور واجب علينا عملًا بقول النبي (ص): "لا يحلّ لمسلم أن يروّع مسلمًا".

 وفي رحلة الوصول إلى الخطاب المستلهم من التاريخ حاصرتني خمسة مشاهد من تاريخ العُمانيين مع الأوبئة والأمراض، وهي:

  • المشهد الأول:

أمٌ مكلومة بابنتها المُصابة بالجدري تستفسر عن نقلها من موضع إلى آخر، هذا المشهد هو ما تُقدّمه بعض فتاوى كتاب "بيان الشرع" للفقيه القاضي محمد بن إبراهيم الكندي (ت: ٥٠٨هـ/ ١١١٥م) الذي تطرّقت فتاويه إلى بعض جوانب الحالة الصحية في المجتمع العُماني خلال القرنين (4-5هـ/ 10-11م)؛ فكشفت عن الأمراض التي كانت منتشرة في تلك الفترة، مثل: الجدري، والجذام (مرض معدٍ يؤدي إلى تقطّع الأصابع)، والصرع، والرعاف. وذكرت الفتاوى كيفية التعامل مع مرض الجدري الذي يظهر من خلال الفتاوى أنَّه كان من أكثر الأمراض انتشاراً؛ إذ جاء في إحدى الفتاوى: "وعن امرأة كانت لها ابنة مجدورة فأرادت نقلها من موضع في البيت إلى موضع...". وفي فتوى أخرى: "... والمجدور الذي لا يحتمل بدنه الغسل إذا مات وخيف عليه إن غُسل أن يتساقط لحمه، فإنِّه يجتزىء له بالتيمم". ويُستنتج مما تقدم أن ثقافة العزل والتعامل مع الأوبئة التي تتطلب إجراءات خاصة ليست بغريبة ولا طارئة على المجتمع العُماني.

  • المشهد الثاني:

أبٌ مكلوم بفقد ابنه وهو في ريعان الشباب والقوة والسلطة؛ حيث يرثي الإمام سعيد بن أحمد بن سعيد ابنه حمد بأبيات تعتصر ألماً ووجْداً على فراق ابنه، فيقول: "وافى حِمامك يا حبيبي بالعجل نار توقد في الضمير وتشتعل". ويؤرّخ ابن رزيق في فتحه المبين تلك الحادثة بأنَّ السيد حمد بن سعيد اشتكى من اشتداد الحُمّى عليه وظهور الجدري بجسده. ويذكر ابن رزيق أنَّ الإمام سعيد ذهب إلى مسقط قادماً من الرستاق بعد أن وصلت له رسالة ابنه حمد، فوجده في ألم شديد من الجدري. ولم يمكث السيد حمد طويلاً بعد مرضه، وتوفاه الله في ٨ رجب ١٢٠٦هـ/ فبراير ١٧٩٢م، ودُفن وقت الضحى في ظهر الوادي الأوسط من بلدة مسقط.

  • المشهد الثالث:

سيدة عُمانية وأميرة عربية تستذكر تاريخها في الغربة، وتستمطر ذاكرتها لتدوين ما يُمكن تدوينه عن وطنها الأم جزيرة القرنفل التي وُلدت ونشأت فيها. إنها السيدة سالمة (ت: ١٩٢٤م) ابنة السيد سعيد بن سلطان سلطان عُمان وزنجبار. ودوّنت السيدة سالمة في مذكراتها مشاهد الأوبئة التي فتكت بالآلاف من أبناء جلدتها، وأفقدتها كثيرين من الأصدقاء والأحباء. ونستحضر بعض ما كتبته: "أريد هنا أن أتناول شيئاً واحداً حول بعض الأمراض. ينتشر الجدري في زنجبار بشكل مُستمر للأسف ويذهب ضحيته الآلاف". وفي مقطع آخر تقول: "أما السُّل فلم يكن ضيفاً نادراً أيضاً في جزيرتنا... لقد عانت واحدة من زوجات أبي، وهي شابة رائعة الجمال معاناة لا توصف من هذا المرض... لقد راح ضحية هذا المرض الغادر عدد غير قليل من أحبائي في ريعان الشباب".

  • المشهد الرابع:

فرحة عارمة تغمر جزيرة القرنفل! أخيراً هنالك مياه نقية لسكان الجزيرة بعد سنين طويلة من شربهم المياه الملوثة، التي كانت بيئة حاضنة لمسببات الأوبئة وأودت بحياة آلاف الضحايا من سكان الجزيرة، وعلى رأسها الكوليرا. هذا ما تحقق في عهد نادرة سلاطين زنجبار السلطان برغش بن سعيد (1287-1305هـ/ 1870-1888م) الذي قدّم مشروعاً إنسانياً في المقام الأول من خلال مدَّ خط أنابيب للمياه من نبع (شيم شيم) إلى المدينة لتوفير المياه النقية للسكان، وذلك في عام 1298هـ/ 1881م؛ حيث تمَّ شقُّ فلج بالاستعانة بالشيخ محمد بن سليمان الخروصي العُماني. وقد أسهم هذا العمل الجليل في القضاء على الأوبئة التي كانت تحصد الكثير من الأرواح، ومنها: الكوليرا، والطاعون؛ وذلك من خلال مُعالجة أهم سبب في انتشارها وهي المياه الملوثة.

  • المشهد الخامس:

بندر مطرح حيث السفن والبضائع والمسافرين، وصل الشيخ سعيد بن حمد الراشدي في غُرة شوال سنة 1314هـ/ 5 مارس 1897م متأهباً في رحلته حاجاً إلى بيت الله الحرام، فلما وصل بندر مطرح أُصيب بمرض الجدري، فتوفي متأثراً به في ليلة 24 من شوال 1314هـ/ 28 مارس 1897م، عن عُمر يناهز 27 عاماً، ودفن في حلة العريانة (تم تغيير اسمها من العريانة إلى العرين حالياً، وهي الحلة التي خلف سور مطرح بعد مركز الشرطة في الوقت الحاضر).

ومع هذا المشهد نستحضر عهد السلطان فيصل بن تركي (1305-1331هـ/ 1888-1913م)، فقد واجه السلطان فيصل تحدياً جسيماً على المستوى الصحي تمثل في كثرة الأوبئة (الطاعون، الجدري، الكوليرا، الجذام) التي انتقلت إلى عُمان من السفن القادمة إليها من الهند وزنجبار وجوادر. وهو ما أدى إلى اتخاذ إجراءات حازمة من السلطان فيصل ليتم السيطرة عليها في النهاية. ومن تلك الإجراءات إصدار قانون في ١٣ يناير ١٨٩٧م تضمّن إجراءات متنوعة ومتدرّجة من الحَجْر الصحي المؤسسي بدأ تطبيقها تدريجياً في مسقط وجوادر، ثم تمَّ التوسع فيها لتشمل معظم الموانئ العُمانية التي كانت بوابة العبور لتلك الأوبئة إلى عُمان. كما قام السلطان فيصل في عام ١٨٩٩م بإقامة محجر صحي على القوافل القادمة من داخلية عُمان باتجاه مسقط؛ وذلك للحدّ من انتشار وباء الكوليرا، وهو بذلك قام بإغلاق احترازي لمسقط لفترة زمنية مُحددة.

ومن تلك المشاهد التاريخية المؤلمة نستلهم الدرس والعِبرة والفائدة ليكون التاريخ مُلهماً ومعلماً، وكي نكون جميعاً على مستوى الحدث الطارئ والتحدي الصعب؛ فالوعي بضرورة التقيد بالإجراءات والالتزام بالتعليمات والتدابير الوقائية يجعلنا نصنع تاريخًا يُسطّر فيه دورنا الإيجابي تجاه الوطن والإنسانية؛ وليكون التاريخ بكل تفاصيله شاهدًا على وعي الإنسان العُماني في الزمن الماضي والحاضر، ولنستشرف المُستقبل بقدرتنا على تجاوز المحن وعبورها بسلام مهما كان نوعها وتأثيرها. كل ذلك لن يتأتى إلا بفضل التزامنا على المستوى الشخصي والمجتمعي والمؤسسي. وأقول في ختام المشاهد قولًا قد يُؤرّخه التاريخ لاحقاً: "في عام ٢٠٢٠م واجه العُمانيون محنة وحدثاً جسيماً تمثل في وباء يدعى (كورونا)، ولكن بفضل إدارتهم وإرادتهم خرجوا من تلك المحنة بأقل الخسائر البشرية، وبالكثير الكثير من القوة والحكمة".

 

 

 

المراجع:

  1. البوسعيدية، سالمة بنت سعيد. مذكرات أميرة عربية. ترجمة: سالمة صالح، ط2، منشورات الجمل، بيروت: 2006م.
  2. الجهورية، أحلام بنت حمود. المجتمع العُماني في القرنين (4-5هـ/ 10-11م) من خلال بعض مسائل بيان الشرع لمحمد بن إبراهيم الكندي (ت: 508هـ/ 1115م). ط1، دار مسعى للنشر والتوزيع، الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء، مسقط: 2019م.
  3. الرحبي، فهد بن محمود. عُمان في عهد السلطان فيصل بن تركي (١٨٨٨-١٩١٣م). ط١، دار الانتشار العربي، بيروت: ٢٠١٨م.
  4. ابن رُزيق، حميد بن حمد (ت: 1290هـ/ 1873م). الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين. تحقيق: عبد المنعم عامر ومحمد مرسي، ط٥، وزارة التراث القومي والثقافة، مسقط: ٢٠٠١م.
  5. المغيري، سعيد بن علي (ت: 1381هـ/ 1962م). جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار. ط4، تحقيق: محمد علي الصليبي، وزارة التراث والثقافة، سلطنة عُمان، مسقط: 2001م.
  6. النبهانية، بدرية بنت محمد وأحلام بنت حمود الجهورية. البُعْد السياسي في فكر الشيخ سعيد بن حمد الراشدي (ت: 1314هـ/ 1897م): "أعلام الرشاد في الدفاع والجهاد نموذجاً". ورقة علمية مشتركة قدمت في الندوة الدولية: أعلام من حاضرة سناو، ١٥-١٧ أكتوبر ٢٠١٩م. (قيد النشر).

تعليق عبر الفيس بوك