مثبطون بنيَّة حسنة

 

أحمد بن سالم الحوسني

يَحكِي لنا التاريخ أن بلادنا عُمان تعرضت لغزو خارجي في فترة من الفترات، وكان قوام المعتدين أربعين ألفا، نصفُهم جيش بري والنصف الآخر جاء من البحر، القائد العُماني في ذلك الوقت لم يكن يملك سوى ستة آلاف وخمسمائة من الجند؛ فتوجَّه للجيش البري وقاتله قتالا شديدا، وانتصرَ عليهم وشتَّت شملهم، ثم علم بعدها بجيش البحر فقاتله بعد نزوله البر، وتغلَّب عليه، وأتلف عددا كبيرا من سفنه، فما كان من جيش العدو سوى الفرار والاستنجاد وطلب المدد.

جاءهم مدد قدره خمسة آلاف يندسُّ بينهم رجل موالٍ للعُمانيين، فتسلل خِلسة، وجاء يُخبر أهل عُمان بالمدد القادم إليهم وعُدته وعتاده، وقد كانت نيته حسنة بتحذيرهم، لكنه من حيث لا يدري ثبَّطهم بمعلوماته ورأوا أنهم يعجزون عن المقاومة، وعندها اتَّخذ القائد العُماني قراره بالتراجع وفض الجيش، وهاجر تاركا البلاد لقمة سائغة للأعداء، وهو الذي فتك قبلها بأربعين ألفا ربما لم يكن يعلم عدتهم وعتادهم!

... إنَّ المعلومات المثبطة تفُت العزائم، وتبُث الخوف، وتبعث على الخور والاستسلام. ربما لا يقع لوم كثير على القائد بقدر لوم ذلك الرجل؛ فالنفس المؤمنة قد يحملها إيمانها وثقتها بالله لتقول: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله"، لكنها تبقى نفسا بشرية تعتريها القلاقل ويهجم عليها الخوف، خاصة إن رأت أنَّ الفارق كبير، وأنَّ المنطق يفرض عليها التسليم والانسحاب، ومع هذه المشاعر سيكون الفشل حليفها.

النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام ثقتهم كبيرة بالله، ومع ذلك يقول الله فيهم: "إذ يريكهم الله في منامك قليلا ويكثركم في أعينهم ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم". الله سلم بأن أخفى عن نبيه حقيقة المعلومات عن عدد الأعداء، وصوَّرهم له عددا قليلا، تتهيأ النفس معه للشجاعة والمقاومة والقتال، ولو كشف الحقيقة لهم لفشلوا وتنازعوا. وصور للأعداء حقيقة مغايرة بتكثير أعداد المؤمنين في نظرهم ليبثَّ فيهم الرعب والخوف. وكما قال صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالرعب مسيرة شهر".

نحن نعيش في هذه الأيام تحديًا حقيقيًّا على المستوى الصحي والاقتصادي، ونحتاج إلى كل ما يمكنه أن يقوي عزائمنا ويشد من همتنا، ويرفع معنوياتنا، ويغذي طاقتنا؛ لذا كان تناقل الأخبار والمعلومات والتحليلات على درجة عالية من الأهمية والخطورة في آن واحد.

إن كان حجب المعلومات والأخبار قد يؤدي إلى التقاعس والتخاذل وعدم الاهتمام، فالإغراق في كمية المعلومات والتحليلات قد يؤدي من جانبه إلى زرع الهلع وزعزعة الثقة بالنفس.

والفضائل كما قيل أوساط بين الرذائل.. أكثرنا يعلم أهمية المعلومة الصحيحة في زيادة الوعي، ورفع درجة الاهتمام، وبذل الجهد والتضحيات، ولكن قِلَّة منا من يعي أن بعض المعلومات يفضل كتمانها وإن كانت صحيحة.

وقديما قيل: ما كُل ما يُعلم يُقال، والأيام أظهرت صدقَ هذه المقولة؛ إذ إنِّ متلقي المعلومة له دور كبير في تحديد مدى استعداده لسماعها وتقبلها، فربما تربكه أو تخيفه أو تنفره أو تؤثر عليه سلبا بطريقة أو بأخرى.

العلم في أصله نور وحياة، لكن بعضه ضرر محض "ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم". وبعضه لا يضر لكنه لا ينفع أيضا: (جهل لا يضر وعلم لا ينفع)، والاشتغال به مضيعة للوقت والجهد.

بعض المعلومات تنتظر الوقت المناسب للإفصاح عنها؛ لأنها قد تكون مؤذية قبل ذلك أو سلبية أو غير مؤثرة، والقرآن يدلنا على مثل هذا المنهج عندما وجه الصحابة رضوان الله عليهم: "يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم".. والعلة أنهم غير مستعدين لها: "قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين".

وقد استعمل الخضر -عليه السلام- أسلوب الإخفاء إلى أجل مع سيدنا موسى -عليه السلام- عندما طلب صحبته: "فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا".

تناقل بعض المعلومات -إن أدت إلى نتائج سلبية مثل التباغض والتنافر- قد يصل إلى حكم التحريم، كما في الغيبة والنميمة، فالغيبة كلام صحيح ومعلومة ربما تكون دقيقة، لكنها وقعت في حال غيبة المتكلم عنه وكراهيته لذلك: "إن كان ما تقول فيه فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته". والنميمة نقل لكلام صحيح قد يوقع الشحناء بين اثنين.

يظهر لنا من كل ذلك أن الحقائق قد تكون مؤلمة في بعض الأحيان، فلابد أن نتوخى الحذر في نقل ما يرد إلينا أو ما اطلعنا عليه، أو ما اكتشفناه (رغم شدة إغرائه).

هناك من يرسم سيناريوهات سوداء لفيروس كورونا ويبث الرعب والهلع، وهنالك من يدعو للاستسلام وعدم المقاومة. وهناك من يتحدث عن أزمات اقتصادية كالحة... وكلها تحليلات نحن في غنى عنها حتى لو كانت مبنية على معلومات وحقائق، فلا داعي لنشرها أو تناقلها، طالما وجدت المعلومات الكافية للحذر والحيطة من جهة، والعمل والاستعداد من جهة أخرى.

ولنعلم أن بعض ما يظهر في صورة حقيقة "إن ابني من أهلي" قد لا يكون كذلك "يا نوح إنه ليس من أهلك".

ولنضع كل شيء في موضعه، فما تظهر بعض الدلائل أنه حقيقة "ثم استخرجها من وعاء أخيه"  ما هو إلا وهم فلا ننقله على أنه حقيقة "إن ابنك سرق"، ولا يفيدنا عندها أن ندعي "وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين"؛ فإن هذا العلم مشكوك فيه؛ إذ نقل التهمة إلى واقع!

إنْ كُنت قد ظفرت بمعلومة ترى أنها على قدر من الأهمية، فأطلع عليها من يقدرها ويستطيع التعامل معها، أو قدمها بطريقة إيجابية.

وتذكر أن هناك من يستعمل المعلومة بطريقة سيئة "أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض". وهناك من يظن به أن تؤثر عليه المعلومة فاكتمها عنه: "لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا". فاتَّخِذ أحيانا من مبدأ يوسف عليه السلام منهجا: "فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم".

دعُونا نتعاون على الخير، وننقل الخير، ونتفاءل بخير، حتى لا نكون: "كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا".

الظلام الموجود بعد عشرات الكيلومترات لا يعنينا كثيرا، طالما أنَّ لدينا إنارة تضيء لنا بقدر مائتي متر أمامنا.. لا تقلل من شأن ما تنقله، وتذكر أن بلادنا وقعت في يد عدو ذات مرة بفعل رجل نقل معلومة مثبطة بنية حسنة، فلا تكن أنت ذلك الرجل.

تعليق عبر الفيس بوك