"كورونا".. وبناء مجتمعنا الجديد

د. عبدالله باحجاج

في إطار الإيمان بأنَّ الأزمات والكوارث ليست شرا مطلقا، فإننا ننظر من هذا المنظور لأزمة كورونا وما يصاحبها من أزمة نفطية جديدة، فمن بديهياتها أنها ستغير الكثير من المفاهيم وتطور الكثير من القناعات السياسية والأمنية، وستصوب في المُقابل الكثير من المسارات، لأنه- وبالذات كورونا- قد هزَّ كل ما هو متعارف عليه، ومُسلم به، والدول الذكية هي التي ستسارع إلى الاستفادة الفورية من دروس الأزمات عاجلا وليس آجلا، لأنَّ ما تفعله إبان معمعة الأزمات سيكتب لها النجاح أفضل من تأجيله، فكل عوامل النجاح تكون قائمة في حينها.

والظرفية الآن مؤاتية لتطوير المجتمع في العهد السياسي الجديد، بما يستوجب أن يكون عليه الوضع منسجمًا مع منطق الأزمات ومفهوم استقرار المجتمع وتقوية اقتصاده من أجل تعزيز مركزه المالي، لأنَّ في هذه المسائل نقاط ضعف كثيرة، معروفة لذاتها، وقد جاء كورونا ليكشفها لنا، ويُلح على مسألة تطوير المجتمع اقتصادياً على الأقل، فالاقتصاد قاطرة لكل العربات.

ولوغلبنا فكرنا التأملي، فإنَّ ضغوطات الأبعاد الاجتماعية كانت لافتة في أزمة كورونا، ودرجة استجابة الدولة لها، كانت من حيث الحفاظ على سلامة وحياة البشر، بكل جنسياتهم في مستوى الحدث، لكن ظهرت علامات استفهام كبيرة حول الإدارة الاقتصادية لتداعيات كورونا، فكورنا قد أنتج حالات اجتماعية جديدة فوق الحالات القديمة، فبرز فوق السطح "المحتاجون والمعطلون والمسرحون والذين يعتمدون في رزقهم على الأعمال اليومية كأصحاب التاكسي وأصحاب تزويد المياه للأحياء السكنية".

وحتى أصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة فقدوا الأمن المالي والسيكولوجي لانقطاع العمل في مؤسساتهم، فتأجيل شيكاتهم لشهور قد ترتب عليه فوائد تراكمية ضخمة من مؤسسات التمويل، كما إن تأجيل الأقساط على المواطنين سيترتب عليه، تأجيل تعظيم المُعاناة وزياداتها لما بعد كورونا، لأنَّ التأجيل يشترط إلغاء الأرباح، وهو لم يحدث، ولا يبدو أن هناك استعدادا لدى البنوك على التضامن المالي مع المُواطنين.

تلكم صور مختارة، ندلل بها، لكي نصل إلى النتيجة التالية، إنه آن الأوان الآن لبناء مجتمع ضامن حاجياته الأساسية بنفسه في الأحوال العادية أو الاستثنائية، آن الأوان للتفكير في تحريره من قبضة الاحتكارات المحلية والأجنبية، وآن الأوان في الوقت نفسه لتمكينه من مصادر دخل جديدة، ومنها يمكن توفير فرص عمل لأبنائه، ليس لدى بلادنا من خيار سوى الانفتاح الآن على تطوير المجتمع من منظور تبني نظام التعاونيات كطرف مساهم في بناء المجتمع الجديد المتناغم مع أدوار الحكومة.

ولو أخذنا صورة من صور هذا النِّظام، كالجمعيات التعاونية الاستهلاكية، فسيظهر لنا الخلل الفراغي واضحًا، وسيتجلى لنا الخلفيات المفترضة من تعطيل هذا المسار أقرب للرؤية، رغم توفر الإرادة السياسية في عهد المؤسس الراحل- طيب الله ثراه- فلماذا عطل ومن يقف وراءه؟ ولماذا؟

أزمة كورونا تكشف لنا بعض الخلفيات الآن، فالمؤسس- عليه رحمة الله ورضوانه- قد أمر عام 2010 بدراسة إقامة جمعيات تعاونية استهلاكية في البلاد، ولم تر النور، لأنَّ هناك لوبيات ضد صناعة التوازن للسوق، وضد الحد من الاحتكار، وضد توفير السلع والبضائع بالأسعار التنافسية. وضد إيجاد اقتصاد ثالث، وهو الاقتصاد الاجتماعي، لأنه سيُؤثر على مصالحه في البلاد، هذا ما كشفته لنا أزمة كورونا، بدليل، ربط استيراد سلة غذائنا طوال العقود الماضية عبر ميناء ثالث وليس مباشرة إلى موانئنا المفتوحة على البحار، ولما انتابنا القلق على أمننا الغذائي في ظل احتدام أزمة كورونا، وجدنا السفن تصل إلينا مباشرة محملة بالمواد الغذائية، فانكشفت حجية الموانئ وعدم جاهزيتها.

ربما علينا الآن، التأمل في المستقبل من دروس الحاضر بعد إسقاط حجية الميناء الثالث، وهذا يدفع بنا إلى إقامة جمعيات تعاونية استهلاكية في كل منطقة داخل ولاية مكتظة بالسكان، فكم سيكون رائعاً، عندما يكون كل أو أغلبية المواطنين هم المساهمون الماليون في إقامة هذه الجمعيات، وهم كذلك المستهلكون لمنتجاتها، ومنهم يشكلون مجالس إدارتها بمشاركة الجهات الحكومية المعنية، هل نتصور هذا المشهد وانعكاساته على قوة المجتمع من ثلاثة أوجه، الأول، دخل جديد له، والثاني فرص عمل لأبنائه، والثالت، أن المواد الأساسية الغذائية ستكون متوفرة للمستهلك وبأسعار معقولة.

أتذكر عندما كنَّا طلابا، فقد كان الأستاذ سعد (معلمنا المصري)- رحمه الله- يحثنا على المساهمة المالية ولو بالقليل في المقصف "بيع الأغذية في المدرسة" وفي نهاية كل عام، نستلم مظروفاً فيه الأرباح، وكم كانت فرحتنا بهذه الأرباح؟ وكم كان شعورنا بالانتماء لهذا المقصف لأنه مصدر غذائنا ومصدر ربحنا؟ وهذه دعود متجددة في التأمل في هندسة وأهمية الجمعيات التعاونية الاستهلاكية، فهي مدخل أساسي لإعادة بناء قوة المجتمع، ويمكن أن نطلق عليه بالمجتمع الجديد، يدير نفسه بنفسه، ويؤمن احتياجاته بنفسه، ويوظف الكثير من أبنائه من مشروعه، مما سيخفف على الحكومة مجموعة ضغوطات كبيرة.

وكما هو معلوم، فإنَّ هذا معمول به حتى في الدول الرأسمالية الكبرى، وقد قطعت أشواطا كبيرة وعميقة في فكرة التعاونيات بعد أن تحولت رأسماليتها إلى وحش يبتلع كل الأبعاد والجوانب الاجتماعية والإنسانية، بحيث أصبحت الفكرة متعددة ومتنوعة، فإنجلترا أصبحت مهد التعاون الاستهلاكي، وفرنسا مهد التعاون الإنتاجي، وألمانيا التعاون الإقراضي.. وبالتالي تسقط حجية البعد الاشتراكي عن التعاونيات التي كان يلوح بها المنتفعون،، إلخ.

ويمكن أن تستوعب الجمعيات أكثر من نصف السكان، كسنغافورة، حيث 50% من سكانها أعضاء في الجمعيات التعاونية، وماليزيا" 20% من سكانها أعضاء في الجمعيات، وفي ألمانيا هناك 6500 جمعية تعاونية، فيها ما يزيد عن 20 مليون عضو، وفي الكويت، تشكل التعاونيات الاستهلاكية حوالي 80 من تجارة التجزئة، وتوفر التعاونيات 100 مليون فرصة عمل في العالم، وتتجاوز عائداتها في السنوات الأخيرة تريليون يورو.

ومجتمعنا العماني في أمس الحاجة للتعاونيات الاستهلاكية والإنتاجية والإقراضية نتيجة لتجدد الأزمات وتكرارها، لأنها- أي البلاد- لابد أن تتطلع لما يسمونه بالاقتصاد الثالث أو الاقتصاد الاجتماعي، وقد أوضحنا فوائده الاجتماعية والاقتصادية على المواطنين والدولة..ونعتبره خطوة تصحيحية للكثير من الاختلالات العميقة، وسيكون إنجازا يحسب لعهدنا السياسي الجديد، وهو يحتاج لمثل هذه التصحيحات في مسيرته التنموية والاقتصادية الجديدة.

وقد حدثنا أحد الأصدقاء في تويتر عن تجربتهم الناجحة في ولاية بهلاء التي أقيمت عام 2004 وانتهت عام 2014 بحرب من اللوبي الآسيوي، فحوالي 200 من العمانيين قد شكلوا شركة تعاونية، يعملون فيها من الثامنة صباحًا إلى الثانية عشرة ليلا، ووظفوا الكثير من الشباب بمرتبات معقولة، وحدثونا عن عائدها المالي الكبير، وقد نجد نماذج كثيرة لكنها فشلت أثناء حرب اللوبيات..

فعلى بركة الله، نبدأ تجربتنا مع التعاونيات من حيث ما انتهت التجارب المعاصرة تنظيما وتشريعا، ومن حيث انفتاح موانئنا المطلة على ثلاثة بحار على الأسواق الإقليمية والعالمية دون ميناء ثالث مجاور مما سيكون له مردود على الأسعار مباشرة.