دروس من جائحة كورونا في التعلم عن بُعد

د. عبدالمنعم بن علي الخروصي

* مدير الشبكة العمانية للبحث العلمي والتعليم

فرضتْ علينا الجائحة التي ألزمت الناس بيوتهم قواعد جديدة في قطاعات مختلفة؛ منها: التعليم بأنواعه والأمن -سواء كان قوميًّا أو غذائيًّا أو اقتصاديًّا والصحة؛ وهي المستهدف الأول في هذه الجائحة، والتي عمت تأثيراتها القطاعات الاخرى، ولن أدخل في تفاصيل تأثيراتها لغير قطاع التعليم الذي أتشرَّف بالانتساب إليه. فقد كشفت الجائحة الغطاء عن مدى الاستعداد لاستمرارية التعلم ولو بالحد الأدنى. ولم أقل هنا التدريس لأنَّ عملية التعلم يمكن لها الاستمرار بعيدا عن المدارس والجامعات والساعات المخصصة لها. هنالك من أظهر سبقا وكفاءة فكان متهيِّئا في البنية الأساسية والأدوات المجربة والسياسات المحكمة والأنظمة الداعمة والمواد التعليمية الميسرة، والأهم من ذلك كله من يُسخِّرها لهذا السبق من أساتذة تعطي وتحفز وطلاب تستقبل وتجتهد وطاقم يدعم ويساند وفوق ذلك كله إدارة حقيقية؛ بهدف وإرادة فحُقَ لهم السبق. وهنالك في الطرف الآخر من لم يؤتوا حظا من ذلك كله، فلجأوا إلى تعليق الدراسة ليكونوا في السلامة. وهنالك من هم بين هؤلاء وهؤلاء، لجأوا إلى من يأخذ بأيديهم واجتهدوا فنالوا بقدر اجتهادهم، وما لا يدرك جُله لا يترك كله. وقد بَدا ذلك جليا في اجتماع لشبكات البحث العلمي والتعليم الأسبوع الماضي، دعت له مؤسسة تحالف الشبكات الأوروبية جاينت، وحضره خمسة وستون عضوا من مؤسسات أمريكية وأوروبية وصينية وإفريقية وعربية.

ولننظر بعين المتفحص الساعي إلى البناء على بصيرة، الناظر فيما حوله من أمم مستنيرة، مستفيدا بما حباه الله من موارد، ومستعينا بما جرى حوله من أقطار من تجارب في تخفيف وقع تأثيرات الجائحة في العملية التعليمية، ولن يتأتى على كل حال سد كل الفجوات والتغلب على كل التحديات، لكن نستمدُّ من الله العون فهو خير مُعين.

ونذكُر فيما يلي ما يخصُّ بلادنا الحبيبة عمان، وكيف لها أنْ تتهيَّأ لتلحق بركب من سبق، بل تكون أفضل بتجنب أخطاء فعلوها أو فرص غفلوا عنها، فما نحتاج إليه لنحقق عملية استمرارية واستدامة التعلم أو ما يطلقون عليه اصطلاحا "التعلم عن بُعد" هو التالي:

1- مواد تعليمية جاهزة للتعلم الذاتي.. هناك مشروع كبير تقوم عليه وزارة التربية والتعليم ضمن مشروع مدارس المستقبل، والمادة التعليمية للتعلم عن بُعد، تكون بها إثراءات تساعد على الفهم وتفرض التفاعل لتعين الطالب على المشاركة.. وقد عرضت مجموعة من الشركات خلال مختبرات التعليم عدة حلول منها عالمية ومنها بكفاءة تنافسها عمانية المنشأ، وتلك المواد كانت غالبا موجهة للتعليم العام (المدرسي). أما التعليم العالي، فهناك جهود مُبعثرة في عمان مثل جهود من جامعة السلطان قابوس؛ حيث أنتجت كمًّا هائلا من المواد التعليمية التفاعلية للتعلم الذاتي، والتعلم عن بُعد من مركز تقنيات التعليم وعدة كليات. جهود أخرى متفاوتة تستحق الدعم والتشجيع لم تقتصر على جامعة نزوى والكلية الحديثة وكلية العلوم الشرعية والجامعة العربية المفتوحة، بل تعدتها، لكنها تبقى مبادرات تحتاج إلى مزيد جهد وتجربة. وهناك مبادرة من مجلس التعليم لدعم المواد التعليمية المفتوحة المصدر لإتاحة مواد عمانية أصيلة وتطالب المبادرة بأن ترى النور.. هناك في الجانب الآخر كمٌّ هائلٌ من المواد المتاحة دوليًّا يتوجب الاستعانة بها إن لم يكن بها محذور وعدم إضاعة الجهود في إعادة ابتكار العجلة، بل نبني على الموجود.. وفي هذا الصدد، تُتيح الشبكة العمانية للبحث العلمي والتعليم، منشورات علميَّة محكمة وبحوثًا وكتبًا رقمية مساندة للعملية التعليمية في مشروعي المكتبة العلمية الافتراضية "مصادر"، والمستودع البحثي العماني "شعاع"، كما تُتيح خدمة "مرسال" لنقل المواد التعليمية والبحثية الضخمة ونقل الامتحانات بشكل آمن، وهنا نطالب بإتاحة هذه النطاقات للاستخدام المجاني لمتصفحي الإنترنت، عن طريق الشبكة اللاسلكية المتنقلة من جميع مُزوِّدي خدمة الإنترنت في السلطنة؛ وذلك على غرار إتاحة مواقع edu.om.

2- منصة تعليمية قادرة على إدارة العملية التعليمية من إتاحة المحتوى، ومتابعة تقدم الطالب، وإدارة الواجبات وتتبعها، وإدارة الامتحانات وتسجيل الدرجات، وهناك عدة حلول؛ منها: مودل؛ وهي مستخدمة بكثرة في عُمان؛ لأنها مفتوحة المصدر، وتطبيق بلاك بورد وجوجل كلاسروم...وغيرها. أما المستخدم بكثرة في جامعات غربية فهو تطبيق كانڤاس وبلاك بورد ومودل، وهذه التطبيقات كلها تحتاج مساحات تخزينية كبيرة. ويُمكن تطبيق الذكاء الاصطناعي على هذه التطبيقات لتتبّع وضع الطلاب وتحفيزهم أو تحذيرهم، وكذلك لإدارة الحرم التعليمي ومرفقاته بتوافق مع العملية التعليمية، وليس من مجال للإسهاب هنا في هذا الأمر، إلا أنه لابد من ذِكر مُبادرة المنظومة التعليمية الموحدة التي تسعى -وبمشاركة من كل أطراف قطاع التعليم العالي بالسلطنة- إلى إيجاد حلولٍ تغطِّي هذه النقطة وأكثر من ذلك بكثير، وتطالب الشبكة العمانية للبحث العلمي والتعليم القائمة على المبادرة بدعمها لترى النور.

3- تطبيق التواصل المرئي لبث الشرح من المدرس إلى الطالب؛ سواء بشكل متزامن يُعطى بأوقات يتفق عليها؛ مثل: الجدول الدراسي، أو غير متزامن (مسجل)، يشاهدها الطالب متى شاء. وهذا لتغطية القصور في التعلم الذاتي، فمهما كان في المادة التعليمية من تفاعل وإثراءات فلا غنى عن دور المعلم. والتواصل المرئي يحتاج إلى سرعة عالية في شبكة الإنترنت، وكذلك مساحات تخزينية عالية في حال التسجيل. ومن هذه التطبيقات المتاحة في عُمان برنامج زووم وهو المعتمد لدى شبكات البحث العلمي والتعليم في أمريكا وأوروبا والعالم العربي، وقررت الشبكة العمانية دعمه لأعضائها من المؤسسات التعليمية والبحثية في السلطنة وبترخيص من هيئة تنظيم الاتصالات. وقد ارتفع عدد مستخدمي التطبيق من 10 ملايين في ديسمبر إلى 200 مليون مستخدم يوميًّا في مارس بسبب الأزمة الصحية الحالية؛ وذلك لسهولة استخدامه وميزاته؛ فأُشِيعت حوله زوبعة الثغرة الأمنية، لكنها لم تعطل الناس عن الاستفادة من مزاياه وما تقوقعوا مخافة الاختراق، بل أوجد بمساعدة المطور للخدمة سبلا لسد الثغرات.. دعموا المطور بالاستخدام فجازاهم بإضافة مزيد من الأمان وما جزاء الإحسان إلا الإحسان، وهكذا يكون التطوير بالثقة والتعاون.. هناك تطبيقات أخرى؛ مثل: جوجل تيمز ومايكروسوف تيمز وBigBlueButton، و GoToMeetingوكل واحد من هذه التطبيقات له ميزاته الوظيفية وما يقابلها من كلفة، والأفضل دائما في الدولة اعتمادَ نظام واحد أو اثنين بالكثير لاكتساب المهارة في الاستخدام واستثمار المعرفة في الدعم واستغلال القوة في التحكم بالسعر والمرجع في الأفضلية هنا الشيوع في الاستخدام دوليًّا. الصين وضعها مختلف في هذه النقطة وفي النقطة السابقة أيضًا؛ حيث إنها أوجدت لنفسها تطبيقات خاصة بها يدعمها في ذلك القدرة على الإنتاج ووجود السوق الكافي لاستهلاك ما ينتج.

4- طاقم تدريسي مهيأ مهنيا ونفسيا وعمليا لعملية التعليم الإلكتروني والتعلم عن بُعد؛ بحيث يكون المدرس قد تمرس وأحكم الزمام ليقوم الواحد منهم مقام العشرات من المدرسين النظاميين، ولابد أن يُتاح له مُعاونون لمتابعة الطلاب والإجابة عن تساؤلاتهم وتصحيح واجباتهم، فيُنتقى أفضل المدرسين ليشرحوا لمجموعة كبيرة ويقوم الباقي بالمتابعة.

5- بنية أساسية تدعم هذه العملية التعليمية سواء استخدمت المنصات العالمية المتاحة أو المحلية في كل مؤسسة والبنية في الشبكة العمانية للبحث العلمي والتعليم تدعم المنصات المحلية التطبيق؛ حيث الشبكة الآن تربط معظم المؤسسات التعليمية بشبكة خاصة وعالية السرعة موصولة بمركز بيانات موحد، وهذا الأمر يدعم مشروع المنظومة الطلابية الموحدة بشكل كبير، وكذلك مشروع مُعين. وقد نحتاج إلى إيجاد حلول للطلاب المعسرين بإيجاد مراكز تعلم في القرى مجهزة للعمل في الحالات العادية أو الحالات الطارئة كهذه الحالة الآن، والتغلب على مشكلة عدم توافر الإنترنت مع بعض الأسر أو عدم توافر أماكن هادئة ليتابع الطالب الدرس عبر التعلم عن بُعد.

6- فِرَقْ دعم فني قادرة على دعم العملية التعليمية ومُمَكّنة بكافة الأدوات والموارد المطلوبة.

7- إدارات داعمة للعملية التعليمية وقوانين وسياسات واضحة.

8- تهيئة الطلاب بالتدريب المستمر والتحفيز والتهذيب، وحث أولياء أمورهم ليقوموا بتيسير الأمر لأبنائهم وتهيئة البيئة المناسبة لهم. ولننظر إلى طلابنا الدارسين بالخارج ممن اُلزِموا بمواصلة دراستهم عن بُعد كيف أوجدوا لأنفسهم حلولا للأعذار التي يأتي بها من أعطي فرصة للمجادلة، ويساندهم في ذلك ذووهم بالمحاجة.  وما أوجد الطلاب الدارسون في الخارج تلك الحلول إلا ليقينهم أنه لا مناص، وكلٌ منهم مسؤولٌ عن نفسه وسيجد ما قدم في شهادته؛ فلا تهاونَ في تلك الجامعات المدعومة بإدارات قوية وسياسات واضحة تسري على الجميع.

هذا.. ولن يكون نصيبنا النجاح إن لم تكن هناك رغبة حقيقية وصادقة من الجميع للتعلم، مع أهداف واتجاهات واضحة، وجهة مسخَّرة لتقود هذا المشروع إلى الهدف.

وفقنا الله لما فيه الخير...،

تعليق عبر الفيس بوك