لنبقَى

 

فاطمة الحارثية

- هل لي من سؤال؟

- تفضل!

- هل المستقبل أمر مادي ملموس لك، أم أنه خيال؟

إذن؛ أيُّها القراء الأعزاء، هل المستقبل أمرا ماديا ملموسا ام خيال؟ في حيز اعتقادي هو اللحظة التي أعيشها في ذاتها وليس ما بعدها؛ لأن القادم ليس غيبيا بقدر ما هو ظرف أو حال يُلزمنا سلوكا يجب ان نكون على علم به لنتفاعل من خلاله كرد فعل، فما رأيك أنت؟

رغم التشاؤم المفعم بالانفعال من حولي، أجد وميضا مُشرقا يبعث على الإيجابية والجمال في كل أمر مهما كان "كئيبا"، إن التوازن في سلوكنا وردود فعلنا هو المستقبل الحقيقي وهو ما يؤتي ثمارا ولو بعد حين، والترفع ليس تكبرا بقدر ما هو إدراك وأولويات، ثم إن نوع البيئة الفكرية له أثر فعال في معظم مجريات الأحداث وسلوك وتفاعل الفرد مع المحيط؛ فالطبيب مثلا تأتي ردود فعله حسب بيئته الثقافية، والصحفي كذلك يُحلل الأمور بعين الخبر وتفاعل الجمهور؛ هذا يقودنا إلى أننا ومن أجل أن نُؤثر في أكبر جماعة ممكنة علينا اتباع منهج العمومية أو دمج الأيديولوجيات لنأتي بمحتوى شامل وتفاعل أكبر وأوسع.

إذن، هل العولمة أتت بما يُفيد الإنسان؟ هل استطاعت أن تقفَ أمام الظروف المختلفة وتنمو لتستمر؟ هل الانفتاح وتجزئة عناصر كل شيء إلى اختصاص وتخصص أتى بنفع دائم للبشرية؟ دعُونا نعطي مساحة لرقعة التقييم، نعم لنقيِّم أداء التفاعل الإنساني بشكل عام، استطاعت الصين أن تأتي بتكنولوجيا حديثة، والكثير من الاختراعات، وها هي عاجزة عن إيجاد علاج يقي بقاءها الإنساني من الاندثار أمام أصغر المخلوقات "فيروسات"؛ التخصُّص والتخصيص أتى بقواعد سلوكية ألزمت الإنسان بأن يعمل على هيئة فرق ليكتمل الأداء؛ فمثلا لا يستطيع فريق طبي الآن أن يعمل بدون مختص تقني أو مختص كيميائي أو حتى كهربائي، وهذا خَلَق نوعًا جديدًا في مفهوم القيادة "الربط والصورة الكبيرة"؛ أي القدرة على ربط الأحداث والمعطيات لتأتي بالنتيجة المرجوة، وهذا علمٌ في القيادة ذو بعدٍ آخر يُلزم صقل موهبة وتعلم الإيحاء والتصور البعدي والاحتواء، وليس فقط القدرة على قيادة الناس والتأثير فيهم وتوجيههم نحو أداء واجبات ومهام محددة. رُبما البعض يحبذ تسميتهم بالاستشاريين، غير أنهم في الحقيقة هم قادة، لأنهم لا يقدمون المشورة فقط بل عليهم إبقاء أربطة التواصل بين مختلف الرؤساء بتنوع ثقافتهم وعلومهم، وإيصال العمل من بداية التخطيط إلى الأداء فالعمليات ثم النتائج المرسومة والمطلوبة. لهم القدرة على تحليل المعطيات أي الأحداث وربطها بالمطلوب ثم تصور ومحاكاة الحلول المحتملة ثم اختبارها بقواعد ذهنية معقدة وبشكل واقعي مدروس من خبرات سابقة مجزأة بأسلوب علمي وعملي.

... إنَّ المحاكاة وغيرها من الاختبارات العلمية والخبرات التي يمارسها الكثير من الناس، تحتاج إلى أذهان لها إمكانيات مختلفة في فهم وإيجاد الإيقاع المناسب لكل محاكاة وقوة التمييز وعدم الاستهانة بالمؤثرات المتعددة المتوقعة والغير محسوبة. والتجزئة وإن أعطت بعض الدقة غير أنها مُهلكة للوقت، ولا تعطي الاستباقية المطلوبة. الممارسة الفعلية لا تقع في حق أسماء محاباة أو فرصا لأن في بعض الحالات خاصة الأزمات يحتاج العقل لإحكام الوضع والخروج من دائرة العواطف من أجل البقاء والاستمرار. إنَّ السائد لدى البعض أن مُتع الحياة محدودة، والغالب أيضا أطّر سعادة النجاح في أمور حددها مسبقا، لم يَدع مجالا لتحكيم القدرات من أجل قادم أجمل، وهذا ما أراه تعريفا حقيقيا لـ"إطلاق الأحكام"، المتوقع قد يكون مُغايرا للأحلام، وربما يكون أجمل أو أسوأ، لا أحد يمتلك الخيال، بل العزيمة على تحديد في أي من الجانبين سيكون حاضرا.

---------------------

جسر:

غريزة البقاء هي الحاكم المطلق في الأزمات، وفهم المعطيات يحتاج إلى مُدرك ومتابع حقيقي يرى بواطن الأمور والسلوك كأبعاد مؤثرة بالوقت الراهن وما بعد الأزمة، والخبير ليس بالضرورة من اختبر الأمر، بل هناك ممن اختبروا الأمور ولم يتعلموا منها، بل هو القادر على التعلم من تجارب الغير، وأن يجد المنفذ والحلول، وإن لم تكن منطقية في بادئ الأمر (وهذا غالبا ما يحصل)، إلا أنه مع الوقت تستمر الحياة ويتحقق البقاء. الإصرار أو الخوف قد يحكم سلوكنا في وقت ما، وتلك الرغبات الصغيرة المختبئة بين جنبات اللاوعي في أجسادنا تمارس علينا طغيانا قد يغتال كل جميل قبل أن ندرك ذلك، كم منكم سأل نفسه بعد تصفيق حار: "هل أنا بالفعل من فعل ذلك؟ هل الفعل مميز جدًّا لأستحق التصفيق؟ هل هذا ثناء على عملي أم مصلحة؟".. وكم منكم اغترَّ وأخذ بالزهو دون أن ينتبه.. كن لنفسك حسيبا.