يُوسف عوض العازمي
alzmi1969@
"إذا كان على القلب توجيه أسئلة، فعلى العقل الرد عليها" - إيمانويل كانت
..........
قرأت مرة لمحمد الغزالي: "بدا لي من دراسة التاريخ ومن دراسة الإنسان العربي بالذات أنَّ الأمة العربية تفقد إنسانيتها يوم تفقد الإسلام".. هنا يؤكد الغزالي -وإن بشكل أقرب إلى المباشرة- أن العرب قبل الإسلام شيء وبعده شيء آخر، ولاحظ أنه ركز على الإنسانية، وهنا أيضا نتذكر خطبة الوداع لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، عندما قال: "أتيت لأتمم مكارم الأخلاق"، وبقراءة لمعنى العبارة يتبين أن النبي -عليه أفضل الصلاة والسلام- يقر ضمنيا بوجود الأخلاق قبل الإسلام، وأن الرسالة أتت لتتمم مكارمها، وهذا رد أيضا على الغزالي، لأنَّ الغزالي وان اتفقت معه في السياق العام، إنما في التفاصيل الدقيقة أجده لم يعط العرب حقهم في مكارم الأخلاق التي كانت من الخصال الأصيلة في العرب، وأتذكر عنترة بن شداد حين قال:
وأَغُضُّ طرفي ما بدَتْ لي جارَتي...
حتى يُواري جارتي مأْواها
بالطبع الحديث يسع الكثير من الاجتهادات التي يتفق ويختلف حولها، وهنا تكمن أهمية الرأي المع والضد، كلاهما إن كان على أساس موضوعي سيثري المعنى، ويغري التعمق أكثر في بنية المعنى للكلمات، وما أكثر الآراء المتضاربة والجدل حول بيت شعر واحد. هنا تتحدث الرغبة في الإبداع، والتمعُّن والاحتكاك مع البنى الشعرية للتمحيص والتدقيق، واستخراج مآثرها الثمينة، وخزائنها النفيسة، من قصائد معتبرة كانت وما زالت وستزال تدرس وتدرس ويتم بحثها علميا" ولغويا ونقديا.
الأخلاق لها مفاهيم مختلفة بحسب الديانة والبيئة؛ لذلك البنية الأخلاقية للمجتمع ما قبل الإسلام بالتأكيد سيحدث بها اختلاف فيما بعد الإسلام، وكأي مجتمع ستبقى أعمدة رئيسية يتثبت عليها البناء الأخلاقي كالفخر، الشرف، النخوة... وغيرها من الصفات الأصيلة التي عرفت عن العرب قبل وبعد الإسلام، كانت هذه الصفات راسخة ثم أتى الإسلام فهذبها، وجعل مكارم الأخلاق أساسا للمسلم.
حتى الفلاسفة في منظومة الأخلاق يتخذون آراء مختلفة حولها؛ هناك من يربط الأخلاق الشخصية بالعلاقة مع الآخر أوبالمفهوم الجمعي؛ مثلا: سأتحدث عن مقولة للفيلسوف الألماني نيتشه: "على الفرد دائما أن يقاسي ليبقى حرًّا من هيمنة المجتمع، ستكون وحيداً وأحيانا خائفاً، لكنَّ الثمن ليس غالياً في مقابل أن تمتلك نفسك". فما الذي يقصده نيتشه؟
أظنه هنا يسقط على المجتمع -أي مجتمع- صفة الهيمنة أي أقرب إلى الامتلاك، وأن الفرد سيكون وحيدا وأحيانا خائفا، أتوقف هنا قليلا كيف وحيدا وخائفا؟
وقد يكون العكس!
إذ قد يكون الفرد هو المهيمن والمجتمع الذي يعايش الوحدانية والخوف (بالطبع افترض الفرد سلطة جائرة) أولا يكون هناك هيمنة من المجتمع ولا توجد أيضا قسوة ووحدانية وخوف للفرد، هذه افتراضات واقعية، لِمَ لا!
إذن؛ فلنتفرض أنه يقصد المجتمع المنغلق (ليس المغلق) الذي تحكمه تقاليد معينة قد يراها أحد الأفراد ممن يملكون نزعة الاستقلالية أنها هيمنة، قد تكون في مجتمع متدين (ولو بالظاهر)، لكنك تسعى للتحرر من هذا الانغلاق، وتحاول إظهار حريتك بالاعتراض على هذا الأمر أو على الأقل ترغب بأنْ تكون حالة مختلفة، هنا أيضا "نتوقف، ما المقصود بحالة مختلفة في مجتمع متدين (أقصد أي دين أو معتقد)، معنى ذلك أنك دخلت في منطقة خطوط حمراء قد تحرقك حرارتها!
طيب.. هل هذا مسعى للحرية والتحرر من القيود؟".
نتوقف أيضا قليلا، وسؤال جديد: ما المقصود بالحرية والتحرر في مجتمع متدين؟ المعنى باختصار هو قفز على التعاليم والتقاليد؛ لأن أي مجتمع متدين يحكمة خطان يُكمل كلاهما الآخر: تعاليم دينية، وعادات وتقاليد.
هناك بعض المجتمعات خاصة الفقيرة أو قليلة التعليم تجد قوة العرف أقوى من القانون، بمعنى آخر التقاليد اقوى من التدين، والعكس صحيح؛ لذا أي معركة تحررية في مجتمع متدين فقير خاسرة إن تجاوزت التقاليد، وأي معركة تحررية في مجتمع متدين ميسور الحال خاسرة إن تجاوزت التدين! كيف؟
لأن التقاليد في المجتمع الفقير غير المتعلم أقوى فعليًّا من التدين، والعكس صحيح، علينا أيضا الوقوف لحظات مع ماهية التدين وماهية التقاليد، ماهية التدين أن تكون مُتدينا بالقدر الكافي بقناعة وليس كتلقين، وماهية التقاليد أن تكون عارفا ببواطن المجتمع وتداخلاته الإنسانية، والتحرر أيضا قد لا يكون موضوعيا، بل قد يكون لعبث وقلة علم، وهو أمر لا يعدو كونه عبثا لا قيمة له، لكن التحرُّر الحقيقي هو تفهُّم معاني الدين والتفكر فيه (هنا أقصد الدين الإسلامي)، وسبر قراءات الأولين من العلماء أصحاب الشأن العلمي ممن لا بدعة عندهم ولا تجاوز موضوعي، وفي التقاليد علينا تفهم أنَّ جزءًا كبيرًا من هذه التقاليد أنتجته الحاجة نتيجة ظروف معينة.
بما أننا في زمن كورونا، فهل ستؤثر أخلاق العلماء في الأبحاث بشأنه؟!