"كورونا" نصير المرأة!

 

 

عبيدلي العبيدلي

التصق تعبير "نصير المرأة"، بالمفكر المصري قاسم أمين، الذي عُرف عنه موقفه الجريء من قضايا حقوق المرأة وحريتها.. وُلِد قاسم في بلدة طرة بمصر في 1 ديسمبر 1863. وكانت ولادته ثمرة زواج تمَّ بين فتاة مصرية من مدن الصعيد، وأب تركي كان واليًا على إقليم "كردستان" العراقي قبل أن ينتقل إلى مصر، بفضل خلافة مع الدولة العثمانية. تلقى أمين تعليمه الابتدائي في مدرسة طارق بن زياد التي كانت تضم أبناء الطبقة المتفتحة في تلك المرحلة.

لم يُخفِ قاسم أمين رفضه للواقع الذي كانت تعيشه المرأة المصرية في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فجاهر بدعوته لها كي ترفض ذلك الواقع، وتتمرَّد عليه. هذا ما نجده في كتبه التي تناولت هذا الموضوع حين ينادي قائلا: "من احتقار المرأة أن يعلن الرجال أن النساء لسن محلاً للثقة والأمانة". ويضيف مؤكدا ذلك، ومشددا على أن "المرض الملم بجميع العائلات لا فرق بين فقيرها وغنيها، ولا بين وضيعها ورفيعها، وهو جهل المرأة ". وكان له موقف واضح بشأن الحجاب؛ حيث قال: "إن حجاب المرأة السائد ليس من الإسلام... أن العزلة بين المرأة والرجل لم تكن أساسا من أسس الشريعة، وأن لتعدد الزوجات والطلاق حدودا يجب أن يتقيد بها الرجل، ثم دعا لتحرير المرأة لتخرج للمجتمع وتلم بشؤون الحياة".

ما يخفى عن الكثيرين منا أنه، وكما تناقلت عنه المراجع المقربة منه، هو تراجعه غير المفاجئ عما كان يدعو له، فوجدناه يعترف طوعا قبل وفاته بعامين لجريدة "الطاهر" في أكتوبر 1906 قائلاً في صراحة: "لقد كنت أدعو المصريين قبل الآن إلى اقتفاء أثر الترك بل الإفرنج في  تحرير نسائهم، وغاليت في هذا المعنى حتى دعوتهم إلى تمزيق الحجاب وإشراك المرأة في كل أعمالهم ومآدبهم وولائمهم، ولكن أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما اختبرته من أخلاق الناس؛ فلقد تتبعت خطوات النساء من أحياء العاصمة والإسكندرية لأعرف درجة احترام الناس لهن، وماذا يكون شأنهم معهن إذا خرجن حاسرات، فرأيت من فساد أخلاق الرجال وأخلاقهن بكل أسف؛ ما جعلني أحمد الله أن خذل دعوتي واستنفر الناس إلى معارضتي". ولم نعثر على تفسير يكشف عن الأسباب التي تقف عن هذا التحول.

تلك كانت إطلالة سريعة على موقف قاسم أمين من واقع المرأة العربية، تأخذ بأيدينا نحو فيروس كورونا المستجد (COVID-19)، وإفرازاته العفوية وغير المبرمجة تجاه المرأة، والتي نرى فيها الكثير من الإيجابية. لا ينبغي أن ينفي هذا تلك المآسي التي تركها، ويُواصل تركها، ذلك الانتشار السريع زمنيا، ومترامي الأطراف جغرافيا، اللذين بلغا درجة الوباء العالمي، على المجتمعات البشرية، إثر اجتياحه، دون أي تمييز، لكل بلدان العالم؛ حيث بلغ عدد المصابين مئات الآلاف، ووصل عدد ضحاياه من الموتى إلى عشرات الآلاف. وكل الدلائل تشير إلى أنه لا يزال في مرحلة اليفاعة، ولم يصل إلى القمة، أو الاستقرار قبل أن يبلغ مرحلة إلى نقطة "التهضيب"، من الهضبة (Plateau)، كي تبدأ مرحلة التراجع قبل الانحسار. لكن ما يسترعي النظر هنا، هو ما خرجت به الدراسات التي رصدت انتشار ذلك الوباء؛ حيث "تظهر البيانات الواردة من الصين أن حوالي 64 في المائة من الوفيات في عشرات الآلاف من الحالات كانت من الذكور، مقارنة بـ36 في المائة من الإناث. وكان 54 في المئة من القتلى من الرجال في كوريا الجنوبية.... وفي تحليل لحوالي 45000 حالة في الصين، كان معدل الوفيات 2.8% للرجال، مقارنة بـ1.7% للنساء. وشكّل الرجال أغلبية طفيفة من المصابين بنسبة 51%".

لكن الأهم من ذلك أنَّ إحدى الظواهر التي فرضها ذلك الفيروس على المجتمعات البشرية، هي إرغام نسبة عالية منهم على ممارسة أعمالهم من المنزل، فوجدنا الكثير من الشركات، إلى جانب الدوائر الحكومية، بما فيها وزارات التربية والتعليم، وتحت متطلبات سرعة انتشار الفيروس واتساع نطاق المناطق التي ضربها، تحث موظفيها وطلابها على التوالي، كي يلجؤوا إلى ممارسة أعمالها عن بعد، وتحديدا من المنازل (Work from Home)

مثل هذا السلوك أرغم المواطنين من الجنسين على مغادرة مكاتبهم الاعتيادية، التي لم يبتعدوا عنها لعشرات السنين، ومزاولة أعمالهم من المنازل، ومن ثم ساوى بين المرأة والرجل في مواقع العمل، وسقطت بفضل ذلك، وفي فترة قصيرة جدا، مقولة، طالما تلكوها ألسن من يحاولون التقليل من مكانة المرأة تحت ادعاءات واهية، تقوم على أن المرأة مضطرة إلى أن تمكث في البيت، وبموجب قوانين العمل، في المنزل لمدة لا تقل عن شهرين كإجازة ولادة، تعقبها فترة أخرى تنالها المرأة للإرضاع الطبيعي.

في وسع المرأة اليوم -بفضل الظروف القاهرة التي فرضها فيروس الكورونا المستجد (COVID-19)- أن تمارس عملها، وعلى أفضل وجه، من المنزل، بينما هي مستمتعة بأيام تلك الإجازات.

أكثر من ذلك، أثبتت تلك الانعكاسات أن بعض الأعمال يمكن أن يفوق الأداء المنزلي، ذلك الذي يتم في مواقع العمل الاعتيادية، وهو أمر وضع حدًّا لذلك التميز الذي لم يكف الرجل عن التباهي، قبل أن يجيره لصالحه في سوق العمل على حساب المرأة العاملة. تتصدر تلك الأعمال قائمة من الوظائف ذات العلاقة بتقنية المعلومات، مثل البرمجة (Coding)، وتصاميم التشبيكات، وإدارة مراكز البيانات (Data Center)، ومراكز الاتصال (Call Centers) وبالنسبة للبرمجة، أثبت الممارسة العملية أنها أفضل، حتى عندما تقتضي طبيعة البرنامج قيد الإنتاج اشتراك مجموعة من المبرمجين في إنجاز العمل.

يضاف إلى ذلك كله، التوفير الملموس، والوفير، في الوقت المخصص للإنجاز، على طرفي علاقة العمل: رب العمل، والموظف، أنثى كان ذلك الموظف أم ذكرا. فالهدر في الوقت المستغرق من وإلى مكان الإقامة، للوصول إلى مقرات العمل. والتي تتضاعف المساحة التي تحتلها في خارطة أوقات العمل، مع النمو الكبير الذي تشهده المدن، وما يولده ذلك النمو من اختناقات مرورية، غير قابلة للتراجع، ومن الصعب تجاوزها، أو محاولة القفز فوقها.

كل ذلك يجعل كورونا نصيرا للمرأة، نأمل ألا يتم التراجع عن المكاسب التي حققتها المرأة في مرحلة اجتياحه، فلا تتكرر مراجعة قاسم أمين لموقفه من المرأة، دون أن يعني ذلك أننا نتمنى استمرار انتشار الوباء من أجل مناصرة المرأة، بقدر ما أردنا الدعوة أن نستفيد من إيجابيات الفيروس، بعد أن نجتث أسبابه، ونقضي على عوامل انتشاره.