د. عبدالله باحجاج
تمر بلادنا الآن بأزمتين كبيرتين في وقت واحد، كل واحدة منهما ولها تبعات مُشتركة ومتراكمة، الأولى أزمة كورونا التي تكبد خسائر مالية اقتصادية وتهدد البشرية، والثانية، حرب المنتجين والتي أوصلت سعر نفطنا إلى مستويات "30" دولارا للبرميل، لذلك بلادنا، ليس أمامها خيار سوى اتخاذ قرارات غير عادية، ومن خارج المنطق الاعتيادي للتفكير شريطة عدم تسليم الملف للماليين وحدهم، لأنهم لن يخرجوا من صندوق الأفكار القديمة.
رب ضارة نافعة، مقولة نُؤمن بها كثيرا، لكنها تستوجب منِّا عملا كبيرًا وصريحًا وشفافًا حتى نحول ضررها إلى مصلحة دائمة لبلادنا، وقد آن أوانها، وهي، إعادة ترتيب البيت المالي الحكومي بصورة شمولية وواقعية، وفورا، لدواعٍ كثيرة، أبرزها، توفير سيولة مالية لخزينة الدولة، وكذلك، لكي تشكل قاطرة للإصلاحات التي كشف عنها عاهل البلاد -حفظه الله ورعاه- في خطابه التأسيسي للعهد الجديد، وتتقاطع معها الآن ظرفية الأزمتين، من هنا نرى أنه آن أوانها الآن أكثر من أي وقت سابق.
فالمتأمل في البيت المالي الحكومي والعمومي "الشركات الحكومية" سيخرج بمجموعة اختلالات مالية عميقة، لم تمس حتى الآن، ولا يأتي التفكير إليها إلا على استحياء، لأن لها ارتباطات بأشخاص في السلطة بصورة أو أخرى، وبقليل من التفكير سنجد أن هناك مسارات حكومية تستنزف سنوياً أموالاً طائلة من خزينة الدولة، وهي من عهد الرخاء الاقتصادي، عهد البذخ، ويستوجب إعادة النظر فيها، وقد تناول الزميل زاهر المحروقي في مقال له بعنوان "من أجل عمان" مسارا من تلك المسارات، وركز فيه على السيارات الحكومية، وصيانتها وقطع غيارها.. إلخ وقدم حلولاً يُمكن من خلالها توفير سيولة مالية لخزينة الدولة هي في أوج الحاجة لها.
لكن لها في المقابل منظور إستراتيجي – غير المالي - يتعلق بمستقبل الإصلاحات الشاملة التي كشف عنها عاهل البلاد -حفظه الله ورعاه- في خطابه التأسيسي للعهد الجديد، وهذا المنظور الاستراتيجي يكمن في أن إعادة ترتيب البيت المالي الحكومي قد أصبحت من ضرورات المرحلة الجديدة للدولة، وهي دولة الجبايات، فما يحاط من مظهرية للفاعلين الحكوميين والعموميين، وما نشاهده من مظاهر استخدام السيارات للأغراض الأسرية والشخصية لا تعكس وجود أزمة مالية، ولا تستقيم مع منطق دولة تسعى إلى ترشيد إنفاقها وضبط ماليتها في الأزمات وغير الأزمات.
ونجد في هذا مدخل أساسي وأولي لمسيرة الإصلاحات الشاملة، وبه يُعطينا مؤشراً على سرعة التطوير وإرادته، خاصة إذا ما ترافق معه تصحيح المسارات الأخرى الاختلالية كمسار استئجار الوزارات والهيئات واللجان.. الحكومية مقار وفروع لها على مختلف ولايات السلطنة، وحتى الكثير من الوحدات التي لها مقار حكومية قد لجأت إلى استئجار فروع لها، ووفق مصدر اطلعنا عليه، هناك جهات حكومية صرفت أكثر من خمسة ملايين ريال في استئجار مبانٍ فقط.. فكيف لو قيمنا مبالغ الإيجارات الحكومية كاملة؟ فكم مبلغ مالي كبير يستنزف من خزينة الدولة سنوياً، وبالتالي يمكن أن تستفيد منه الدولة؟
ومنذ عام 2011، شهد هذا المسار توسعًا في الإيجارات الحكومية بعد إقامة وزارات وهيئات جديدة، أقدمت على استئجار حتى مساحات أمامية كمواقف للسيارات، مما زاد من مضاعفة العبء المالي على خزينة الدولة، علما بأنه لو كان هناك تخطيط حكومي أو من يفكر في الأموال العامة واستثمارها، لما سمح باستمرارية هذه الإيجارات، والكثير منها مرتفعة السعر، فالأموال المُنفقة فيها ضخمة، ويمكن أن تعمل مقرات واستثمارات حكومية جديدة، تدر عليها عوائد مالية، وهناك نماذج قد تبنت هذا النهج، ونجحت فلماذا لا يتم الاقتداء بها؟
لأنها أموال عامة، فالثقافة الحكومية والمجتمعية لا تزال تؤطرها فلسفة "هذه أموال الدولة" رغم حرمتها شرعاً وقانوناً، وكأن بلادنا لم تشهد أزمات مالية خانقة، وهذا مردة أننا لم نكن جادين في خطط الترشيد السابقة، وأننا كنا نبحث عن الحلول البسيطة والسريعة لحل مشاكلنا المالية وقت الأزمات، وقد كان ولا يزال يتحملها المواطنون، لأنَّ كل الخطط كانت تستهدف جيوبهم حتى أصبحت الآن هذه الجيوب عاجزة عن أن تتحمل المزيد.
فالسيارات الحكومية وأحجامها وأشكالها، تشكل مظهراً من المظاهر المغرية للمسؤولية الحكومية، ولن يقبل المسؤول الكبير تجريده منها بسهولة، لأنها تمس كيانه المصطنع، وتضفي هالة فوقية على شخصيته، فكيف يأتي التفكير الحكومي إلى هذه المنطقة؟ والشيء نفسه للإيجارات الحكومية، فهي تخدم منظومة منافع كثيرة، منها المتمصلحة ومنها المواطنون، لايُمكن الرهان على الاقتراب منها بصورة طوعية، وكل ما يُمكن القيام به تحميل المواطن أعباء مالية إضافية.
وهذا ما يحدث فعلاً، حيث يظهر بين الفينة والأخرى أصوات تلوح بالمساس بالمرتبات كخيار من الخيارات المطروحة والجاهزة، وهو بذلك، لم يخرج عن الأفكار التي في الصندوق الحكومي، مما يفسر على نطاق واسع بأنه من الموجهات لجس نبض الرأي العام.
وإذا ما انتقلنا إلى الشركات الحكومية، فالاختلالات فيها حدث ولا حرج، سواء من ناحية المرتبات العالية للقيادات التنفيذية للشركات الحكومية والتي قد تصل "25" ألفا شهريا أو الامتيازات المجانية التي لا تعد ولا تحصى، وتصوروا حجم هذه المرتبات ومنافعها في أكثر من "60" شركة حكومية؟ فما هي مبررات هذه المرتبات العالية والامتيازات الخيالية؟ هل بسبب النجاح والأرباح السنوية التي يحققونها؟ الكثير منها خاسرة، وتزيد هذه المرتبات والامتيازات فوق خساراتها أعباء ثقيلة، الأهم الآن إعادة النظر في المرتبات والامتيازات لأنها فوق الواقع وفوق المرحلة، وينبغي ألا تذهب معنا لمرحلة تطبيق رؤية عُمان 2020.
كما أن الدولة مطالبة بهيكلة أوجه الإنفاق من جديد للوزارات والوحدات واللجان والهيئات الحكومية بعيدا عن التعميم المؤحد كخفض موازناتها بنسبة "5%" كما حدث مؤخرا، فهذا التعميم المشترك قد لا ينفذ إلى مستوى الدقة للكثير من الوزارات والوحدات، ومن ثم التأكد بوسائل مستقلة ومتخصصة أن الموازنات تصرف في الأماكن والأوجه المخصصة لها، فموازنة الدولة لم تعد تتحمل الإنفاق غير المبرر والمبالغ فيه، كما أن المجتمع لن يتحمل المزيد من الأعباء المالية.
لذلك، فكل ما تناولناه في هذا المقال يشكل نموذجا استرشاديا لإعادة تنظيم البيت المالي للحكومة، وما تلكم سوى نماذج لمسارات تستنزف أموال الدولة، وهي معلومة بالضرورة، لكن العلم بعدم مواءمتها الآن لظرفية مالية الدولة من جهة والعلم بأنها تشكل مقدمة أساسية لمسيرتنا الجديدة في تنويع اقتصادنا الوطني من جهة ثانية والعلم أن شكل الدولة الجديدة الذي نتأمله حتى قبل تطبيق الإصلاحات الجديدة الموعودة، يحتم أولاً إعادة هيكلة الإنفاق الحكومي والعمومي معاً من الزوايا المشار إليها سابقا.