عبيدلي العبيدلي
يواصل العالم انشداهه مما ولده فيروس كورونا، من سلوكيات، وفرضه من أمور واقعة، ربما تكون فريدة من نوعها في تاريخ البشرية.
ومن بين السلوكيات التي ولدها ذلك الانصياع الطوعي غير المسبوق لدى المواطن تجاه نداءات دولته، حتى في تلك البلدان التي تعاني من قطيعة تاريخية بين الإثنين. فقد شهدنا استجابة سريعة من لدن المواطن، شابتها بعض المبالغات من لدن المواطن أيضًا للإجراءات المطلوب اتباعها، إما تحاشيا للإصابة بالفيروس، أو رغبة في الحد من انتشاره. وباستثناء حالات لا تستحق الذكر، شكل ذلك التجاوب ظاهرة عالمية، يمكن القول إنّها غير مسبوقة.
على نحو مواز عانى العالم من أزمة اقتصادية حادة غير مسبوقة أيضا، تجاوزت في نطاق تأثيراتها، وتداعياتها، حتى تلك التي ألمت به جراء أزمة 2007 – 2008، والتي اعتبرت حينها الأسوأ، حتى عندما جرت مقارنتها بالكساد الكبير في الثلاثينيات من القرن الماضي، والذي اعتبره البعض السبب المباشر في اندلاع الحرب الكونية الثانية، حيث لم تعد تداعيات انتشار فيروس كورونا محصورة في قطاع معين دون غيره، ولم تعد ما يحتاجه من احتياطات مقتصرة على المجال الصحي، والتقيد بمستلزمات السلامة والوقاية الفردية.
في خضم ذلك، بدأت هذه الأزمة تثير موضوعا، ربما لم تثره أزمات أخرى وهو الحديث عن تلكؤ بعض الدول في الإعلان عن إصابة مواطنيها بذلك الفيروس في الوقت المحدد، والبدء في مواجهته بالمستوى المطلوب، الأمر الذي سرّع من انتشاره على مستوى عالمي، وضاعف من حجم الدمار الذي ألحقه بالاقتصاد العالمي، الذي أدى إلى انهيار اقتصادات بعض الدول، وقاد إلى تردٍ بدرجة غير مسبوقة في اقتصادات دول كانت تنعم بالرفاه.
ولو توقفنا عند المسألة الأولى، وهي "إخفاء" بعض الدول المعلومات عن مواطنيها أولا، وسكان العالم ثانيا، فسنجد أنّها بشكل أو بآخر تشير إلى موضوعة الشفافية. أي مدى الشفافية التي تمارسها هذه الدولة أو تلك إزاء مواطنيها، أو العالم.
والشفافية لغة هي "قابلية الجسم لإظهار ما وراءه، فيقال للشخص الذي يظهر ما يطبن: رجل ذو شفافية. ويقال للثوب الرقيق: ثوب شفاف (بفتح الشين وكسرها) أي رقيق، وعلى ذلك فإنّ الشفافية تعني القدرة على إبصار الأشياء الموضوعة خلف الشيء، ومعرفة حقيقتها".
أما اصطلاحا، فهي "العلانية والوضوح؛ وهي عكس السريّة، فالسريّة تعني إخفاء الأفعال عمدا، بينما تعني الشفافية الإفصاح عن هذه الأفعال، وينطبق ذلك على جميع أعمال الحكومة بوزاراتها المختلفة، كما ينطبق على أعمال المؤسسات الخاصة التي يتضمن عملها تأثيرا على مصلحة الجمهور، والمؤسسات غير الحكومية".
وهناك من وسّع من الدائرة التي يشملها هذا المفهوم فاعتبرها الأداة التي تستخدمها ""الجهات المعنية بمكافحة الفساد في العالم، معبرة عن ضرورة اطلاع الجمهور على منهج السياسات العامة وكيفية إدارة الدولة من قبل القائمين عليها من رؤساء دول وحكومات ووزراء وكافة المعنيين في مؤسسات الدولة؛ بغية الحد من السياسات غير المعلنة (سياسات ما خلف الكواليس) التي تتسم بالغموض وعدم مشاركة الجمهور فيها بشكل واضح".
وبقدر ما تتراجع أهمية، الشفافية في مراحل الرخاء والرفاهية، بقدر ما تتعاظم الحاجة لها، والتقيد بمقاييسها، في مراحل الأزمات، وفي لحظات اشتدادها. وهو ما نتحدث عنه اليوم عند توقفنا أمام مرحلة الأزمة التي يواجها العالم برمته لمكافحة تفشي "وباء"، إن جاز لنا كورونا.
وبخلاف ما يتوهم البعض، وعند الحديث عن الأزمة التي يواجهها العالم اليوم، فضرورة التقيد بالشفافية المطلوبة، لم تعد محصورة في سياسات الدولة، ولا سلوكيات المسؤولين فيها، بل أصبحت اليوم مطلبا عاما يقتضي أن يتحلى بها المواطن أولا، ومنظمات المجتمع الدني ثانيا، ومؤسسات القطاع الخاص ثالثا، دون أن يعني ذلك إخلاء ذمة إدارات الدولة التي ينبغي أن تكون في طليعة هؤلاء جميعا.
وإذا ما بدأنا بالدولة، فهي المطالبة الأولى بالإفصاح عن الحالة التي وصل لها فيروس كورونا في الحيز السياسي الذي يقع على عاتقها مسؤولية إدارته. والشفافية هنا لا تقتصر على الإحصاءات والأرقام، رغم أهمية كل منهما، وإنما تتجاوز ذلك كي تمس الاستعدادات، والسياسات، والتحوطات.. إلخ.، كي تصل إلى المحاسبات، التي لا يقصد منها الانتقام.
وكلما كانت الدولة أكثر تهيؤا كلما كانت التداعيات أقل ضررا، والفترة الزمنية أقصر عمرا. ومن ثم أصبح الخروج من الأزمة وتداعياتها اللاحقة أشد سرعة.
أمّا بالنسبة لمنظمات المجتمع المدني، فكلما كانت الأنظمة والقوانين التي تسير أعمالها، أكثر مرونة، دون التفريط بمقاييس الشفافية، أو التهاون في تطبيقها، كلما كانت أكثر قدرة على مواجهة مثل تلك الأزمات، وأكثر استعدادا للاستفادة من القنوات التي بنتها، خلال مرحلة ما قبل الأزمة، بين المواطن والمجتمع، للخروج من الأزمة المعنية بأقل الخسائر.
والأمر ذاته ينطبق على المواطن، فكلما ارتقى تمسك المواطن بمعايير الشفافية "الفردية"، وألزم نفسه بها طوعا، لا خشية من الدولة، ولا جزاءات قوانينها، كلما تهيأ المجتمع لتقليص انتشار الأزمة في صفوف مواطنيه، فحد من سلبياتها، وطوق دائرة فعلها.
هذا يجعل من الشفافية والوعي بأهميتها، وليس الخشية منها، عاملا مهما من عوامل التصدي للأزمات، والخروج منها بأقل الخسائر الممكنة.
تبقى قضية في غاية الأهمية تتوزع على ثلاث مسائل:
الأولى منها، هي أنّ مرحلة زرع بذرة الشفافية لا تبدأ عند اندلاع الأزمة، أو لحظة اشتدادها، وإنّما في مراحل سابقة، تستغرق فترات طويلة، قد تمتد لعقود، قبل أن تتحول إلى منظومة متكاملة، تعبر عن نفسها في سلوك حضاري يمارسه المجتمع ككل، وليس حالات استثنائية مصدرها مبادرات فردية متناثرة.
الثانية منها، هي أنّ الشفافية ليست شعارا للاستهلاك تلوكه الألسن، وتتداوله أجهزة الإعلام، بل هو نظام بيئي (Ecosystem)، يتطلب بناؤه رؤية واضحة، وخططا ملموسة وإرادة قوية.
الثالثة منها، رغم أنّ الشفافية مفهوم عالمي، إلا أنّ لكل مجتمع نسخته الخاصة منها، دون أن تعني تلك الخصوصية التفريط بمقاييس ذلك النظام العالمي للشفافية.
كل ذلك يقود لأن الشفافية هي من أهم، إن لم تكن الأهم، عناصر مواجهة الأزمات، والتصدي لإفرازاتها، من أجل الحد من تداعياتها، قبل استئصال جذورها.