عبدالله العليان
عاشتْ الهند قروناً طويلة من التعايش الديني والعِرقي والمذهبي، وهذه الديانات والعرقيات الكبيرة والمتعدِّدة، تتعايش بصورة مُتجانسة فيما بينها، وكان هذا لافتاً بصُورة تبعثُ على السعادة لهذه الروح الوطنية الرائعة، لتعايش الشعب الهندي مع الاختلافات الكبيرة: الفكرية، والدينية، والعرقية، مُقارنة بدول وكيانات كثيرة أخرى، لم تُحافظ على هذا التعدُّد والتنوع الذي بلا شك يُشكل قيمة فكرية وثقافية كبيرة لهذا التقارب، الذي يزداد معه التفاعل بين الثقافات المختلفة، ضِمن الكيان الواحد؛ ذلك أنَّ الإنسان كائنٌ اجتماعي كما أشار إلى ذلك العلامة ابن خلدون، ويعيش حياته مع الجماعة ويتفاعل؛ سواء كانت متقاربة ثقافيًّا، أو بينهما اختلافات، كما أشرنا آنفاً. ومن هنا، يتداخل التبادل بينهما؛ سواء كان هذا في المجال الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي، ولا شك أنَّ التبادل الذي يجري في المجتمع الواحد، يعتبر مسألة تفاعلية تجري في الواقع المعاش بين هذه الجماعات، وهذا بلا شك يُسهم إسهاماً كبيراً في التقارب والتفاهم والتآلف، ويحقق لذلك التعايش الذي هو قيمة حضارية رائعة في حياة الأمم والثقافات.
وعندما حَكَم المسلمون الهند لقرون عديدة، أسهموا في ترسيخ قيمة التعايش القائم، وبنوا عليه الكثير من القيم التي تجمَع هذه الشعوب الكبيرة، ولم يفرضوا الدين الإسلامي على أصحاب الديانات الأخرى، لكَّنهم بشّروا بهذا الدين الجديد، الذي دخل الهند الكبيرة مترامية الأطراف، قبل التقسيم الذي حصل في الأربعينيات من القرن الماضي، بعكس الذي حصل في الأندلس (إسبانيا الحالية)، التي حكمها المسلمون لستة قرون تقريبًا، وعندما استردَّ النصارى الأندلس، حصلت محاكم التفتيش الشهيرة في ذلك العصر، سواء بفرض الدين على المسلمين، أو القتل أو الهرب! والآن للأسف يجري في الهند من بعض الطائفة الهندوسية ما يخالف هذه القيمة العظيمة من التعايش الحضاري في هذا البلد المتعدد، إذ كشفت الأخبار والمعلومات من الهند، ومن خلال وكالات أنباء غربية محايدة، وبالصور الموثقة، منذ عدة أسابيع، هجمات على الآمنين المسلمين، وقتلهم وحرق بيوتهم، ومساجدهم، وهذه بلا شك ظاهرة خطيرة، وتطرُّف مقيت، وإقصاء للتعايش القائم، ومخالفة لما هو معهود من دولة عاشت لقرون طويلة في التعدد الديني والعرقي والمذهبي، وقبل ذلك نتذكر قبل عدة عقود مضت تحرُّك البعض من أبناء الطائفة الهندوسية ومن غيرهم، بالهجوم على مسجد البابري الشهير في الهند، ولولا إحدى القنوات الغربية التي نشرت الهجوم في حينه، لما بقي للمسجد أثر، ثم بدأ التحرك المكشوف من خلال المحاكم في استرداد المسجد إليهم بعد، بدعوى أنه كان معبداً سابقاً للهندوس! وبغض النظر عن هذا الادعاء يظل هذا الأمر مجانيًّا للتعايش، والهند أرض كبيرة مترامية الأطراف، ويمكن أن تُقام عشرات المعابد، لكنها رسالة ليست طيبة، بَرَز عنها ما حصل مؤخراً ضد المسلمين، وحرق مساكنهم ومساجدهم، في ظاهرة غريبة!
ولا شك أنَّ ظاهرة عدوى التطرُّف، بدأت تزحف على شعوب كثيرة في هذا العصر، وتحولت من ظاهرة محدودة وفردية، إلى عمل منظم، ومدعوم من مؤسسات سياسية ودينية، وعلى الرغم من التقدم العلمي والتقني الكبير، الذي أصبح يمثل منهجاً للعيش المشترك ضمن التعدد والتنوع، فإنَّ الأمور أصبحت معاكسة لهذه القيمة العظيمة، ولا شك أنَّ هذه الانتكاسة للتعايش تؤرق الكثير من المهتمين والباحثين، وقد سمعت منذ عدة عقود من بعض الهنود، بعد الهجوم على مسجد البابري، "أننا نخاف على أنفسنا مستقبلاً، من بعض الممارسات والتصريحات من بعض الأحزاب المتطرفة في الهند"، وهذا ما حصل مؤخراً، وحقيقةً ليس في صالح الهند ولا مستقبلها الحضاري، الذي أصبح يُبشر بنهضة علمية كبيرة، تجري في هذا البلد الكبير، ونجاح هذا التقدم مرهون بالتعايش والتفاهم والسلام الاجتماعي، ونبذ التطرف والغلو من بعض الأحزاب والجماعات الدينية.
والهند بعد الاستقلال كان فيها انفتاح رائع، وكانت الهند بعد الاستقلال نموذجاً للتعايش الكبير، خاصة وأن المسلمين كانواً أكثر قُربا من هذا الحزب الذي أسسه غاندي، كان من الأحزاب التي قدمت التعايش على القضايا والأمور الخاصة لطائفة بعينها، وهذا الحزب نفسه رفض التقسيم الذي أعدته بريطانيا قبل استقلال الهند، وانفصال باكستان الحالية، ثم بنجلاديش الحالية، من باكستان، بدعم ومساندة من الهند في سبعينيات القرن الماضي.
ويعتبر العلَّامة المسلم أبو الكلام آزاد واحدًا من الرجال المصلحين في الهند، والاسم الحقيقي له مُحيي الدين أحمد، الذي ولد في مكة المكرمة، ولقب "أبو الكلام" كونه خطيباً مفوَّهاً، وله العديد من المؤلفات، وقد سُجِن لمرات عديدة، لمواقفه ضد الاحتلال الإنجليزي في الهند، لكنه من الرجال الذين دعموا سياسة التعايش؛ لذلك انضم إلى حزب المؤتمر، ثم أصبح رئيساً للحزب بعد ذلك في الأربعينيات، ويذكر الكاتب د. رضوان قيصر في كتابه "أبو الكلام آزاد وتشكّل الأمة الهندية"، أن "أبو الكلام آزاد"، وقف: "ضد الطائفية المتنامية في الهند -قبل الاستقلال- والتي كانت تعمل على تحطيم القومية الهندية (:)، على أساس "الحصحصة الطائفية" في العام 1932". ولا شك أنَّ المسلمين بعد التقسيم، أصبح الولاء لبلدهم متماسكًا، ولم يصدر عنهم ما يضر بالوحدة القومية في الهند، وهذه ميزة عظيمة لهذا البلد الكبير، وبغيرها لن يكون هناك استقرار يحقق السلام الاجتماعي.