معارك إدلب بين موسكو وأنقرة

عبيدلي العبيدلي

خلال الأسبوعين الماضيين، تصاعدتْ الأوضاع العسكرية في إدلب؛ إثر مقتل مجموعة من الجنود الأتراك، في أعقاب قصف جوي شارك فيه السلاح الجوي الروسي. تطوَّرت الأزمة من مُجرد صدامات عسكرية فوق الأراضي السورية، كي تصل إلى أزمة دبلوماسية مصدرها سماح تركيا للمهاجرين النازحين من تصاعد تلك المعارك بالتوجه نحو الحدود اليونانية التركية؛ بحثا عن ملجأ أوروبي جديد. وبدأ الحديث عن توفير "منطقة آمنة حقيقية في إدلب بموافقة روسيا والولايات المتحدة، وكذلك مساهمة الاتحاد الأوروبي قد تُصبح على جدول أعمال القمة الروسية - التركية". التي وافق الرئيسان فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان على عقدها "في موسكو؛ في محاولة لخفض التوتر بين بلديهما نتيجة القتال في محافظة إدلب السورية بين قوات الحكومة السورية المدعومة من روسيا والمعارضة المتحالفة مع تركيا".

وتعمَّدت موسكو -كما نُشِر في الكثير من مواقع التواصل الاجتماعي- أن يظهر في خلفية الصور الأولى الملتقطة للوفد التركي خلال تلك الزيارة "تمثال يعود لـ(كاترين الثانية) التي تعتبر إحدى أشهر أباطرة الروس والتي ألحقت العديد من الهزائم بالدولة العثماني".

نقل ذلك التصعيد العسكري الأزمة من حيِّزها الحربي الضيق، إلى دائرة العلاقات التركية - الروسية واسعة النطاق، التي تتوسط مركزها العلاقات التاريخية وفي القلب منها تلك الاقتصادية. لذا؛ فمن الخطأ القاتل حصر تلك العلاقات العميقة في قلب التاريخ، في معركة عسكرية هنا، أو تصعيد حربي هناك، محصور مهما بلغت سعة تأثراته في الساحة السورية.

فجُذور للعلاقات الثنائية الروسية والتركية تغوص عميقا في "تاريخ عمره 5 قرون؛ فقد بعث إيفان الثالث الأمير الأكبر وحاكم روسيا في العام 1492 برسالة إلى السلطان العثماني بايزيد الثاني حول مسائل التجارة البحرية بين الجانبين، وافتتحت السفارة الدائمة للإمبراطورية الروسية في القسطنطينية عام 1701".

ومن يُخالف هذا العُمق ويعتقد أن الأزمة يُمكن أن تأخذ أبعادا أخرى، فعليه أن يعود للعام 2015، عندما أسقطت القوات التركية المقاتلة الروسية على الحدود السورية التركية، التي ألقت "بظلالها على العلاقات الاقتصادية - التاريخية بين البلدين؛ إذ أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استعداده للاستغناء عن الغاز الروسي، وبالاستعانة بدول أخرى لبناء المحطة النووية الأولى لتركيا بدلاً من روسيا".

وعلى نحو موازٍ، أعلن رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف "أن إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية قد يؤدي لإلغاء بعض المشروعات المشتركة المهمة بين البلدين".

فالحروب -ليست تلك التي بالوكالة- بل المباشرة، لم تتوقف بين البلدين لما يزيد من قرنين من الزمان، لعل الأبرز بينها حرب القرم الأولى، التي اندلعت في "العام 1853 واستمرت ثلاث أعوام وانتهت بمعاهدة باريس عام 1856. نشبت الحرب بسبب مطالبة روسيا بالوصاية على الرعايا الأرثوذكس في السلطنة العثمانية وعلى رأسهم مسيحيو فلسطين. فوقفت بريطانيا وفرنسا إلى جانب تركيا في الحرب ضد روسيا. ورغم خسارة روسيا الحرب لكن معاهدة باريس التي أنهتها سمحت لها بالاحتفاظ بأغلب المساحات الشاسعة التي احتلتها في حروبها السابقة ضد تركيا".

من هنا، ينبغي لمن يريد أن يسبر غور مسار العلاقات الروسية التركية أن يراها من منظار أوسع، تقودها الروابط الاقتصادية والإستراتيجية، وليست كما قد يتصور البعض معركة هناك، أو صداما عرضيا هناك، اللهم إلا إن أراد أحد الطرفين المسَّ بتلك العلاقات المتداخلة، فلجأ إلى معركة مفتعلة تكون مبررا لوضع تلك العلاقات على طاولة المفاوضات.

فوفقا لأرقام البنك المركزي التركي: "فإن العلاقة التجارية الثنائية بين روسيا وتركيا تطورت في العقود الثلاثة الأخيرة بشكل كبير؛ حيث ارتفع حجم الواردات التركية من روسيا من 3.87 مليارات دولار عام 2000 ليصل إلى 18.6 مليار دولار عام 2018، كما ارتفع حجم الصادرات التركية لروسيا من 639 مليون دولار عام 2000، ليبلغ 3.4 مليارات دولار عام 2018".

كما تصنف تركيا على أنها "ثاني أكبر مستورد للغاز الطبيعي من روسيا، كما أن الأخيرة تعد سوقا رئيسيا لتصريف الخضراوات التركية، ووفقا لبيانات موقع ITC Trade بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين في 2019 نحو 25 مليار دولار".

وعلى مستوى التبادل التجاري أيضا "بلغ حجم صادرات روسيا إلى تركيا العام الماضي نحو 21.3 مليار دولار، مقابل واردات بقيمة 4.2 مليار دولار. وقد تعافى التبادل التجاري بين البلدين حاليا بعد انخفاضه بشكل ملحوظ في 2016 على إثر إسقاط سلاح الجو التركي قاذفة روسية فوق سوريا".

وفي السياق ذاته، تتصدَّر تركيا قائمة البلدان التي يقصدها السواح الروس، وحسب البيانات التركية "قد بلغ عدد السياح الروس، الذين زاروا تركيا في 2019 نحو 7.018 مليون سائح، مسجلا رقما قياسيا بارتفاعه بنسبة 17.65% مقارنة بالعام 2018".

ووفقا للأرقام الرسمية التركية، "وصل حجم الاستثمارات الروسية المباشرة في تركيا منذ بداية العام وإلى غاية شهر سبتمبر إلى 755 مليون دولار، وهو ما يضع موسكو في المركز الرابع عالميا من حيث حجم الاستثمارات الأجنبية في تركيا. وجاءت روسيا في هذا المركز بعد كلّ من إسبانيا، والولايات المتحدة الأمريكية ثمّ هولندا".

وفوق هذا كله، هناك اعتماد "تركيا على الغاز الروسي في نحو 57% من وارداتها من الغاز الطبيعي لتكون روسيا المورد الرئيسي للغاز الطبيعي الى تركيا، وبنحو 3% من الواردات النفطية، وهو ما قد يضر بتركيا كثيرا في حالة قررت روسيا وقف إمدادات الغاز أو وقف المشاريع المشتركة في مجال الطاقة".

والأهم من كل ما ورد ذكره، يتصدر مشروع "السيل التركي" للغاز الطبيعي من أربعة خطوط، التي اتفقت روسيا وتركيا على تنفيذه.

لذا؛ ولمن يُريد أن يعرف ما سوف يفرزه أي تصعيد عسكري على الساحة السورية، ينبغي له أن يدرك، بناء على قراءة تاريخية معمَّقة لتلك العلاقة التي تقوم بين الدولتين، أنها ترتكز في أصولها، كما يراها المؤرخون "على أساس التنافس عمومًا.... والحروب على مدى التاريخ"، المنطلق أساسا من المصالح الاقتصادية المشتركة بين العاصمتين: موسكو وأنقرة.