عبدالنبي الشعلة
ونحن نُواجه ونُقاوم بضراوة وباء فيروس كورونا المُتجدد القاتل، ونضع على أفواهنا وأنوفنا كمامات واقية، إلا أنَّ أعيننا يجب أن تبقى مفتوحة وبصائرنا متيقظة لما يُحاك ضدنا وما يدور حولنا من تطورات إقليمية خطيرة؛ وبالذات ما يقوم به النظام التركي الآن من تصعيد للأوضاع في سوريا وفي ليبيا، لدرجة أنَّ مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى ليبيا أكد قبل يومين أنَّ ثمة مخاطر حقيقية من تحول الحرب هناك إلى حرب إقليمية، في الوقت نفسه يتواصل سقوط الضحايا الأبرياء في إدلب بسوريا جراء تبادل القصف على الأراضي السورية بين القوات التركية وقوات النظام السوري والقوات الروسية المتحالفة معها.
ويُقال، والعهدة على القائل، إنه في مكتب الرئيس التركي بالقصر الرئاسي بأنقرة الذي بني في العام 2014 والمكون من 1150 غرفة؛ عُلقت لوحة كبيرة كتب عليها بالخط العريض المقطع التالي من رسالة وجهها السلطان سليمان القانوني إلى الملك فرانسيس ملك فرنسا: "إنِّه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، أنا سلطان البحر الأبيض والبحر الأسود والبحر الأحمر والأناضول والروملِّي وقرمان الروم وولاية ذي القدرية وديار بكر وكردستان وأذربيجان والعجم والشام ومصر ومكة والمدينة والقدس وجميع ديار العرب والعجم وبلاد المجر والقيصر وبلاد أخرى كثيرة افتتحتها يد جلالتي بسيف الظفر ولله الحمد، والله أكبر، أنا السلطان سليمان بن السلطان سليم بن السلطان بايزيد".
وفي هذا السياق تبرز الحاجة إلى التذكير والتأكيد على أنَّ السلطان التركي رجب طيب أردوغان الحالم والطامع في إحياء كرسي الخلافة العثمانية والتربع عليه يُدرك، كما كان يدرك أسلافه من قبل، أنَّ تحقيق ذلك الحلم لن يتم إلا بعد استعادة السيطرة على العالم العربي؛ وبشكل خاص التحكم بجزيرة العرب السعودية والأماكن الإسلامية المُقدسة فيها. وهذا أمر محال في هذا العصر وسيبقى كذلك إلى أبد الدهر، ومع ذلك فإنَّ أردوغان ظل يسعى للوصول إلى هدفه ونجح حتى الآن في الحصول على موطئ قدم له وتحقيق وجود عسكري لبلاده في سوريا وفي ليبيا مؤخرًا، وحاول قبلها زعزعة الاستقرار الداخلي للملكة العربية السعودية عن طريق حلفائه في داخلها من الإخوان المُسلمين وغيرهم، وفي الوقت نفسه محاصرتها من الخارج بدعم نظام معادٍ ومناهض لها في مصر، وبناء قاعدة عسكرية في خاصرتها بجزيرة "سواكن" بالسودان، وقاعدة ثانية في خاصرتها الأخرى بدولة قطر الشقيقة، إلا أنَّ القادة السعوديين تمكنوا ونجحوا في تثبيت وتعزيز دعائم وقواعد الأمن والاستقرار في المملكة، والقضاء على جماعات وعناصر الفتن والتخريب، من ناحية أخرى فقد هبَّ الشعب والجيش المصري في الثالث من يوليو 2013 وأطاح بنظام محمد مرسي الإخواني في مصر، كما هبَّ الشعب السوداني وأطاح بحكم عمر البشير وألغيت بذلك اتفاقية القاعدة التركية في جزيرة سواكن، ولم تبق إلا القاعدة التركية في قطر التي نرجو من الله أن يُزيلها بعد أن يمن علينا بإصلاح ذات البين بين الأشقاء قادة دول مجلس التعاون الخليجي.
إنَّ أطماع ومحاولات العثمانيين القدامى والجدد في السيطرة على الجزيرة العربية وأماكن المسلمين المقدسة في مكة والمدينة ليست وليدة اليوم، ولكنها تتجلى الآن كاستمرار لحلقات مُتواصلة ومحاولات سابقة ومستمرة نكتفي لضيق المساحة بالتوقف عند حلقة واحدة منها حدثت في تاريخنا الحديث عندما تمكن الملك عبد العزيز رحمه الله من تأسيس الدولة السعودية الثالثة في العام 1902 تحت اسم المملكة العربية السعودية، فبينما كان يسعى إلى توحيد وضم باقي أجزاء الجزيرة إلى مملكته، وردت له رسالة من السلطان العثماني عبدالحميد الثاني عن طريق أحد قواده المدعو حسن شكري، محذرًا فيها الملك عبدالعزيز ومحاولًا استمالته وإقناعه بأن يُعلن ولاءه لها، ومن بين ما جاء في الرسالة أن جلالة الخليفة الأعظم بلغه اضطراب الفتنة في بلاد نجد وأنّ يداً أجنبية مُحرّكة لها، وأنّ السلطان يرغب في حقن الدماء، ومنع التدخل الأجنبي في البلاد المُسلمة، كما جاء فيها: وقد قال الله تعالى "وأطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم"، فمتولي أمركم الذي تجب طاعته بنص الآية الشريفة هو خليفة الله ورسوله السلطان عثمان، فأنصحك نصيحة مسلم لمسلم أن تسرع إلى الطاعة، واحذر العصيان، والله على ما نقول وكيل.
رفض الملك عبد العزيز تهديدات السلطان عبد الحميد الثاني وطلبه له بالانضواء تحت نفوذ الدولة العثمانية، وأجابه برد حازم مفصل من بين ما جاء فيه: ".... أما الآن فلا نقبل لكم نصيحة ولا نعترف لكم بالسيادة، والأحسن لك أن تبقى في مكانك الذي أنت فيه إذا كنت لا تحب سفك الدماء، وإذا تعديت مكانك مُقبلًا علينا فلا شك أننا نعاملك معاملة المعتدي علينا، وقد قال الله تعالى "ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم"،
وختم الملك عبدالعزيز رسالته بما يلي: "وخلاصة القول إنَّ العمال الذين رأيناهم من الأتراك خائنون منافقون، فلا طاعة لكم علينا بل نراكم كسائر الدول الأجنبية".
وحتى لا يُقال إننا حصرنا التهديدات والأطماع العثمانية على المملكة العربية السعودية فقط، أو إننا اخترنا التركيز على التهديدات والأطماع التركية وتجاهلنا أطماع وتهديدات الإمبراطورية الفارسية؛ فلابد أن نشير إلى لوحة عملاقة أخرى رفعت هذه المرة في أحد ميادين طهران بمُناسبة الانتخابات البرلمانية التي جرت قبل أيام مكتوب عليها بخط عريض بالفارسية: "هذه دولة قورش الإخمينية، من السند وسيحون شرقاً إلى غزة ولبنان غربًا، أرضٌ يحفظها العمق الاستراتيجي، إيران الغد امتداد لمبادئ قورش العظيم".
وقورش أو كورش العظيم هو أعظم ملوك إمبراطورية فارس الإخمينية.
وهكذا فنحن العرب نجد أنفسنا متورطين وواقعين بين أطماع الإمبراطوريتين وصرنا ضحايا للصراع التاريخي القائم بينهما، مما عرقلنا ومنعنا من التقدم والتطور.
فمنذ أن استقر الإسلام في الأراضي الفارسية والتركية بعد فتحهما بسواعد الجنود العرب المُسلمين، والقوتان التركية والفارسية تتسابقان وتتصارعان على بسط سيطرتهما ونفوذهما على الأراضي العربية، خصوصًا أراضي الجزيرة العربية أو المملكة العربية السعودية، وكل منهما تسعى بمختلف الوسائل والطرق إلى نقل أو استقطاب "الثقل الإسلامي" إلى أراضيهما واختطافه من أرض الجزيرة العربية التي شرفها الله واختارها لهذا الدور فبعث فيها نبيه وأنزل رسالته فوق ترابها، كما أن كل واحدة منهما تعتقد بأنها أحق من الأخرى لنيل هذا الشرف، وبالتأكيد أحق من جزيرة العرب التي كانت أرضًا جرداء.
وكل واحدة منهما تريد السيطرة والهيمنة على الدول العربية، إيران تريد إعادة الحياة إلى قورش العظيم وإعادة رسم خارطة المنطقة واستعادة الأمجاد البائدة للأخمينيين والساسانيين، وتركيا تُعلن وتريد أيضًا إعادة رسم خارطة المنطقة بأبعادها العثمانية الهالكة واستنهاض روح السلطان سليمان القانوني، وتركيا بالذات لا تجرؤ على الحلم باستعادة أمجادها أو حدودها العثمانية في أوروبا، فقد فشلت حتى في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
إنَّ الطرفين يتصارعان ويطمعان لأن يختطفا مركز الثقل الإسلامي من أرض الحجاز حيث بيت الله الحرام في مكة المكرمة ومسجد ومرقد رسوله الكريم في المدينة المنورة، متحدين بذلك إرادة الله وإرادة رسوله الأكرم الذي وضع حجر الأساس في مكة والمدينة لتكونا عاصمتي المسلمين الروحيتين وقبلتهم ومحط أفئدتهم، ولم يتمكن سلاطين الدولة العثمانية الأوائل ولن يتمكن سلاطينها الجُدد، كما لن يتمكن ورثة عرش قورش من تغيير هذه الحقيقة على الرغم مما مارسه العثمانيون من إهمال في حق هاتين العاصمتين عندما وقعتا تحت سيطرتهم وإدارتهم فلم تكن أي منهما قادرة على مضاهاة إسطنبول في العمران وجمال التخطيط.
إنَّ الإهمال ومحاولات التقليل من شأن مكة المكرمة والمدينة المنورة تمثل أيضًا في رفض أي من السلاطين العثمانيين، وما أكثرهم، زيارة أي منهما لأداء فريضة الحج أو زيارة قبر الرسول اعتقادًا منهم بأنَّ ذلك سيعني اعترافًا وترسيخًا لمكانتهما، وهذا ما سلكه ويسلكه أيضًا قادة الجمهورية الإسلامية في إيران؛ إذ لم يسجل التاريخ قيام الإمام الخميني أو الخامنئي بزيارة مكة أو المدينة لأداء مناسك الحج أو العمرة.
نرجو من الله العلي القدير أن يحفظنا من وباء فيروس كرونا المتجدد ومن الأطماع المتجددة للعثمانيين والصفويين.