.. ولم يتقبلها المجتمع العماني طوال 50 عاما

د. مجدي العفيفي
في العام 1995، طرحتْ بعض وسائل الإعلام الأوروبية على جلالة السلطان قابوس بن سعيد -طيَّب الله ثراه- سؤالًا حول مدى قابلية المجتمع العُماني منذ بداية تشكيله المعاصر لفكرة وجود الأحزاب السياسية؛ فأنار محيط هذه المسألة بقوله: "كان هناك تطوُّر مطرد في صلاحيات ومسؤوليات مجلس الشورى (برلماننا)، وكذلك في عضويته، والتي خطت خطوة للأمام بمشاركة المرأة، وإذا ما أسرعنا في كل هذه الأشياء على سبيل المثال، مع الإلحاح على التأسيس أو القيام المبكر للأحزاب السياسية والشعارات الأخرى للديمقراطية، فسوف يأتي ذلك بكارثة في مجتمع يقوم أغلبه على الشكل التقليدي للبناء الاجتماعي".
يتبنَّى الخطاب السياسي هذه الرؤية بأبعادها المختلفة؛ إذ يرى أن السلطنة تدرجت في الصعود بالمشاركة السياسية إلى هذا المستوى الكامل دونما الحاجة للتفكير في إنشاء الأحزاب السياسية، وأن تحقيق مبدأ المشاركة بوجه عام ليس مرهونًا بالضرورة بإقامة الأحزاب؛ فتجربة السلطنة تنمو وتتطور دون أية دوافع أو مبررات تدعو لوجود هذه الأحزاب، وتبدو هذه الفكرة غير مُستساغة أو مقبولة في المجتمع العماني، ويرجع ذلك لعدة عوامل:
- أولها: أن نظام المشاركة في العمل العام في السلطنة يقوم على مبدأ التعاون والتعاضد بين مؤسسة الشورى وأجهزة الدولة؛ بما يحقق الأهداف العامة للمجتمع العماني، ولا يعرف مفاهيم الصراع وتداول السلطة التي تتحرك في إطارها الأحزاب السياسية. "نحن لا نؤمن بالشعارات ولا نؤمن بالمجالس الجوفاء، ومن يعرف معنى المجالس الجوفاء أو عاشرها وعاصرها، فإنه يفهمني، وعندما يأتي الوقت ويكون عندنا الشباب الواعي القادر على القيام بواجبه كاملا غير منقوص، فلا أعتقد أن هناك من يريد أن يتحمل أعباءً فوق طاقته".
وثانيها: أن المجتمع العماني مجتمع متآلف ومتحاب، يقوم على التكافل والتراحم والتعارف المباشر بين أفراده وقبائله، ولا يحتاج في عملية المشاركة إلى تعبئة أو تجنيد من قبل أحزاب سياسية أثناء خوض عملية الانتخابات أو غيرها، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، يؤكد الخطاب "إنني تمامًا أبتعد عن سياسة المظاهر، والأصداء الرنانة، ولا أسعى من وراء ما أعمل إلى خطف بريق.. لا أسعى إلى قيام تشكيلات ومؤسسات صورية، وما أسهل تشكيلها، ولكنني أعمل على أن تقوم خطواتنا لأعمالنا، على أسس واضحة، حتى تكون لها الكفاءة والفاعلية المطلوبة".
وثالثها: أن القضية الجوهرية التي تشغل المجتمع العماني، وتأتي في صدارة الواجبات العامة على جميع المواطنين، هي بناء الأمة العمانية، وتعزيز الوحدة الوطنية التي تحققت في عهد النهضة، وتعميق الولاء للوطن، وتذويب الولاءات الضيقة، ومنع كل ما يؤدي للفرقة أو المساس بالوحدة الوطنية. فالتجربة نابعة من جوهر الشخصية العمانية والمجتمع العماني؛ لذلك فإنَّ الخطاب يحرص على رفض التقليد لتجارب أخرى لها مناخاتها وبيئاتها "إننا لا ننوى استيراد أنواع أجنبية من الديمقراطية إلى هذا البلد، وعملية المشاركة التي نشهدها اليوم عمانية صرفة، ويجب أن تظل هكذا دائمًا؛ بحيث تتماشى مع ثقافة شعبنا ودينه وتقاليده ومتطلباته المحددة، وفي يقيني أن يستمر النجاح الذي حققناه باتباع هذه السياسة وفي لعب دور حيوى في تطوير بلدنا". الأمر الذي أكده في سياق مماثل إذ يشير إلى "أننا نرفض التقليد ونرفض الأخذ بمذاهب وأنظمة الطفرة، ونؤثر أسلوبنا الواقعي في التفكير والتطبيق بعد أن أثبتت مسيرتنا صحته وجدواه، نحن لا نخطو إلا بعد دراسة عميقة وقناعة تامة".
ومع الثقافة المجتمعية والتقاليد والسعي لتوسيع المشاركة الشعبية الوطنية، تتجلى مقولة جلالة السلطان: "إنَّ حكم العائلات بدون تأييد شعبي ولَّى زمنه، الحكم يجب أن يكون متمتعًا بثقة الجميع، شخصيًّا لست متخوفًا من الحضارة والتقدم، علينا أن نتطور وعلينا أن نتقدم، هذه هي سُنة الحياة، جميع الدول تتقدم وتمارس مختلف الوسائل؛ لتحقيق مستوى أفضل لمواطنيها، ومن المفروض أن تزيد الحضارة ثقة المواطن بنفسه؛ وبالتالى أن تزيده إيمانًا بأرضه وببلده". فالأصل في الشورى أنها ممارسة الحرية من قبل مجموعة من الناس ضمن مرجعية معرفية أخلاقية جمالية عرفية، وأول أسس الشورى حرية التعبير عن الرأي، بوجود "الرأي والرأي الآخر"، والتكافؤ في حرية التعبير بين الآراء المختلفة، لكن هناك بنية اجتماعية واقتصادية وسياسية، يتم التعبير عن الرأي من خلالها لا من خارجها، أي أن الشورى تأخذ أشكالا تاريخية متعاقبة، وتخضع للتطور التاريخي طبقًا لبنية المجتمع التاريخية وأرضيته المعرفية التي تمارس فيها هذه الشورى، وهنا يوضح الخطاب إدراكه لبنية المجتمع؛ ليجنبه خطورة حرق المراحل في العملية السياسية.
وقد تعرَّض لهذا السياق في أولى سنوات النهضة "قد يكون من السهل أن أصدر مرسومًا بإنشاء مجلس الشورى غدًا، ولكن.. هل تعتقد أنه من الممكن تشكيل المجلس بالشكل الذي نتطلع إليه، تحت ظروف شعبنا الحالية، قطعا: لا! لذلك؛ فأنا أسعى -أولا- لتوفير المناخ الذي يسمح بتكوين الإنسان الصالح، حتى تأتي نتيجة الانتخاب لمجلس الشورى صحيحة، وتكوين الإنسان الصالح، لن يتحقق إلا -كما ذكرت- بالنهضة العلمية، التي يمكن أن توفر لنا الأعداد المطلوبة من الكفاءات".
ورابعها: أن فكرة تسويغ الدعوة لإنشاء الأحزاب السياسية تقترن بحجة الإسهام في توسيع نطاق مؤسسات المجتمع المدني، غير أن الناس في سلطنة عمان تعتمد في ذلك على تكوين الجمعيات الأهلية التي يكفل النظام الأساسي للدولة حرية تكوينها على أسس وطنية ولأهداف مشروعة وبوسائل سلمية، وبما لا يتعارض مع نصوص النظام الأساسي للدولة والشروط والأوضاع التي يبينها القانون. "إن أكثر الناس قدرة على الحفاظ على الحرية، هو المواطن نفسه، إنْ استطاع أن يستعمل حريته، في الحدود المعقولة والمقبولة، فلن يعرضها لأية خطر، والحرية -في تصوري- لا تعطَى بقانون، فقد ينص القانون على أمور، تقيِّد الحرية، وقد ينص القانون على أمور، يمكن أن تختلف تفسيراتها، وقد تختلف نظرة القانون عن نظرة المواطن، بالنسبة لقضايا قد يتصور أنها من صميم حريته. إن الحرية تتوقف على رغبة المواطن في الحفاظ عليها، وعلى كيفية استخدامه لها".
وخامسها: أن عُمان مجتمع قبلي محكوم بإرث ضارب في عمق الزمن، ومع انبلاج فجر النهضة العمانية، ظل المجتمع العماني متماسكًا رغم توزعه القبلي، ومتمسكًا بجوهر تكوينه، إلا أن عصر النهضة الحديثة، استطاع أن يوحد المشاعر الوطنية ويجعل الانتماء لعمان كقبيلة كبرى والولاء لعمان بوصفها القبيلة الأم دونما تجاوز للوضعية الاجتماعية القائمة. واستطاع أن يوحِّد ألوان الطيف بعد تشرذم طويل ذاقت منه عُمان الأمرِّين. فالقبيلة في المشهد السياسي العُماني لم تكن قط ظاهرة انغلاقية سلبية، ولم تكن دائرة مغلقة على ذاتها، بل تمكنت الدولة من احتواء القبيلة بسلام اجتماعي وطيب خاطر وصلاح نفس، في ظل الدولة العصرية القائمة على المصلحة العامة والمرجعية المؤسسية وسيادة القانون. فالقبيلة هي النواة الأساسية المكونة للدولة العربية، القديمة منها والحديثة، وبشكل أو بآخر، تناغمًا مع الرؤية بأن المهارة في مراعاة مصالح القبائل هي الأساس في الفكر السياسي للزعماء العرب، وأن التسيير الذاتي الملازم للقبائل يعفي الدولة من تولي مهام عديدة، ولا تزال القبيلة موجودة في المشهد العربي؛ باعتبار أنَّ تقاليد القبيلة والقرابة والنسب تشكل ركائز ثابتة في الأنظمة السياسية العربية، وأنَّ العلاقة العضوية بينها يتوزعها محوران كبيران؛ الأول: محور الدولة الحديثة التي أقيمت على قاعدة زعامة سياسية. والثاني: محور الدولة الحديثة على قاعدة الغلبة للقبيلة أو العائلة الأقوى التي لعبت الدور الأساسي في قيام الدولة الحديثة في بلادها.
لقد استطاع الخطاب السلطاني أن يُؤسِّس لنظام حكم يتوافق مع البيئة العمانية من وجهة نظره في ذلك الوقت، فنظر للبيئة العامة الوليدة القائمة أساسًا على العنصر القبلي، فأدرك أن القبلية هي العنصر الفاعل في النظام، وبالتالى عمل على الحفاظ عليها وتطويرها، ومن ثم يمكن القول: إن النظام القبلي أو البناء القبلي يسير جنبًا إلى جنب مع التيار المؤسسي الحديث، ولكن هذه الازدواجية المؤسسية لا تشكل عبئًا سياسيًّا في السير نحو التحديث. فمجالس الولاة ما زالت قائمة، وتحقق طموحات شيوخ وزعماء القبائل، وتعمل على خلق نوع من التوافق في المجتمع العماني من خلال الدور الاجتماعي الذي تقوم به وحل مسائل الخلاف القبلية بشكل ودي؛ إذ إن دورها يقتصر على المشاركة في المشروعات الخدمية والإنتاجية داخل البيئة المحلية فقط. أما البناء الحديث فقائم على المؤسسات والهياكل الرسمية وَفق المنهج المتدرج والسلمي. أما التباين الذي تتطلبه المناخات البرلمانية؛ فيمكن أن يشتغل على تباين الأفكار واختلاف الاجتهادات بحيث يتحقق الثراء في النقاش، وصولا لأهداف تعانق أماني الإنسان في التقدم والرقي، وليس صحيحًا أن لا تستوفي الديمقراطية إلا بوجود تيارات متصارعة، بل تتحقق بإيجاد المناخ الصحيح الذي يشكل الحاضنة الأصيلة لثراء الأفكار؛ لتتفاعل من أجل هدف واضح وغايات محددة ألا وهي إسعاد المواطن في وطنه.
وهذا البناء الحديث لا شك يستوعب النظام القبلي، وهو الأقوى منه في إطار الرؤية العمانية الجماعية نحو مسايرة التطورات العالمية، وعدم التخلف عن ركب الدول المتقدمة، ويلاحظ أن النخبة الجديدة من الشباب الذي تلقى قدرًا مهمًّا من التعليم، سواء داخل السلطنة أو خارجها، يتم استيعابها وَفقًا لمنظومة المجتمع العماني. فهؤلاء هم الذين يتم تمثيلهم في الهياكل والمؤسسات الحديثة، وهم القادرون على المساهمة في التطوير ولكن بطريقة تدريجية، وفقًا لمنظومة عامة تحافظ على الأمن والاستقرار في المجتمع العماني.
وسادسها: تبقى الإشارة في المسافة المتحركة بين الشورى والديمقراطية إلى العلاقة بينهما كمصطلحين تبدو أوجه التشابه بينهما أقل من أوجه الاختلاف؛ فكلاهما يحكمه القانون: الشريعة في الشورى، والدستور في الديمقراطية؛ فالشريعة هي الثابتة وهي التي تحكم، فلا يوجد ثيروقراطية في الإسلام، بل يوجد حكم الشريعة أو القانون، الشريعة ثابتة وهي المبادئ العامة للشرع، أما الدستور فإنه أيضًا ثابت لا يتغير، به نفس الصفات، وهي اتفاقه مع العقل والمصلحة العامة، وهي صفات القانون والطبيعة مثل الحرية والمساواة في الحقوق والواجبات. صحيح أنه يمكن إدخال بعض التعديلات على الدستور طبقًا لظروف العصر المتجددة، ومع ذلك يبقى في مبادئه العامة واحدًا، والعقل والطبيعة الدعامتان الرئيستان في الوحي، نظرًا لوَحدة الوحي والعقل والطبيعة، يلتزم الجميع به ولا يمكن خرقه ويحتكم الكل إليه حاكمًا ومحكومًا، يشبه المواثيق الدولية مثل ميثاق الأمم المتحدة وميثاق حقوق الإنسان ومواثيق جنيف بالنسبة لأسرى الحرب والأراضي المحتلة. ويتشابه النظامان في استقلال القضاء، ففي الشورى القضاء مستقل يفصل بين المتخاصمين، وتقوم الديمقراطية على مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وإذا اختلفت السلطات التشريعية والتنفيذية فإن السلطة القضائية هي الحكم بينهما.

تعليق عبر الفيس بوك