التسريح.. هناك فرحة وهنا محنة

د. عبدالله باحجاج

وجدنا أنفسنا فجأة نفتح ملف التسريح مُجدداً بعد ملاحظات تلقيناها مؤخراً حول مقالنا المعنون "محنة المسرحين.. تضر بالأمن الاجتماعي" المنشور في الثامن من ديسمبر الماضي في جريدة الرؤية، مما جعلتنا – أي المُلاحظات – نعمل الفكر في الرد الإيجابي عليها من منظور توضيح وتفنيد المُلاحظات، وتقديم تجربة ناجحة لقضية المسرحين، يُمكن أن تشكل رؤية وطنية لحل القضية في إطار إعادة النهوض بالمجتمع والاقتصاد، خاصة وأنَّ قضية التسريح وتداعياتها لا تزال قائمة، ونلمسها على مستوى رؤيتنا الجغرافية بصورة مُقلقة، بل إننا نعتبرها قضية مفتوحة في ضوء عدة اعتبارات، أبرزها:

استمرار الأزمة المالية والاقتصادية دون أن يكون لها أفق زمني معلوم، وعدم استعداد الشركات المحلية والأجنبية على تحمل التقليل من هامش أرباحها المعتادة، أو تحمل الخسائر لفترة منظورة، وبالتالي، لابد من العمل على إيجاد نظام دائم يضمن مجموع المصالح الوطنية والأجنبية، وكذلك حتى لا تتكرر تجربة التسريح/ الفصل بنسختها الراهنة، وحتى لا تكون طبقة الأيدي العاملة العُمانية هي التي تدفع ثمن الأزمة لوحدها سواء من جراء أسبابها الموضوعية أو استغلت للتخلص من عناصرنا الوطنية أو أية أزمة مُقبلة مُماثلة.

ولا يمكن نفي رغبة الوافدين في احتكار قطاع العمل والتوظيف في بلادنا، والشيء نفسه لن ينكر تفضيلهم للأيدي العاملة الأجنبية على حساب الوطنية، فهذه من كثرة ما عشنا قصصها، قد جعلتنا في المقال السابق المشار إليه أعلاه، ننقل رؤية نبهان البطاشي رئيس اتحاد عُمال السلطنة، التي كشف فيها عن خطة مُمنهَجة للتخلص من الأيدي العاملة العمانية، وهو الأقرب من بيئة العمل والعمال، وهو الأعلم بأسرارها وخفاياها.

وما كشفه البطاشي أن تدعمه معطيات وممارسات ميدانية، لعل أبرزها سيطرة الأجانب على تجارتنا وبعض المفاصل الأساسية من اقتصادنا، علمًا بأنَّ علمية التخلص من العناصر الوطنية لم تكن محصورة على الأزمة التي تفجرت في منتصف عام 2014، وإنما لها جذور تاريخية، رصدناها ميدانياً في حينها مع الكثير من الشباب قبل الأزمة.

هناك استدلال آخر يُمكن تقديمه كذلك، وهو فشل كل مشروع عُماني في مجال المخابز، فهناك شباب اقتحموا هذا المجال، لكنهم سرعان ما انسحبوا منه، وتكبدوا خسائرها نتيجة محاربة اللوبي الآسيوي لهم- وفق النماذج في محافظة ظفار اطلعنا عليها من أصحابها- وهنا بدأت لنا الخلفيات تنكشف، فوراءها لوبي يحارب سراً كل عُماني ينافس الوافد، وكم من شاب قد اشتكى لنا من فشل مشروعه بسبب هذا اللوبي.

واللوبي إذا لم يجمعه رابط النسب، فروابط المصالح المشتركة والمتعاظمة، واحتكار السوق والانتماء لرابطة البلد الواحد، أقوى من رابطة النسب، حتى هذه الرابطة الأخيرة غير مُستبعدة، فكم من عائلة آسيوية أو متجنسة تحتكر الكثير من القطاعات عبر مجموعة شركات صغيرة ومتوسطة وكبيرة منتشرة في كل أنحاء البلاد.

وماذا فعلت الحكومة من أجل المسرحين حتى الآن؟ الملاحظات تحاججنا في طرح هذا التساؤل في المقال السابق، وهو- أي التساؤل- يتحدث عن القضية بأكملها، ولا ينفي جهودا بذلت لكنها متواضعة قياساً بحجم الأزمة، لأن القضية أكبر من أية مُعالجات منجزة، فالمسرحون- أغلبهم- لا يزالون عالقون في التسريح، والتسريح هاجس جاثم فوق مخاوف الكثير في القطاع الخاص، وكان يفترض أن يمنح كل مسرح راتبا "إنقاذي" لتسيير أموره والوفاء بالتزاماته، وهذا لم يحدث حتى الآن، وحتى لو حدث مستقبلاً، فلن يكون لوحده الحل المثالي الذي يمكن الاطمئنان عليه لكي يعالج قضية التسريح في كل أطرها الزمنية.

فما الحل؟ كان هذا التساؤل هو الدافع الأساسي الذي يقف وراء فتحنا مجددا لملف التسريح في بلادنا رغم تلكم الملاحظات التي تستوجب الرد، وقد لجأنا إلى البحث في تجارب الدول الأخرى، ووقفنا على تجربة ناجحة للسويد، قلبت فيها مفهوم التسريح من محنة عند أبنائنا المسرحين إلى فرح عند المسرحين السويديين، ويرجع ذلك إلى نظام يعرف باسم "مجالس الأمن الوظيفي". وتقوم هذه المجالس باستقطاب أفضل المدربين الذين يأخذون الموظفين "المسرحين" من أعمالهم في رحلة تدريبية يكتشفون من خلالها مهاراتهم وإمكاناتهم، ومن ثم يحاولون التوفيق بين تلك المهارات والقدرات وبين متطلبات بعض الوظائف والأعمال للحصول على وظائف جديدة.

وتقول المصادر التي اطلعنا عليها، أنه نتيجة لهذا البرنامج، أصبحت السويد الأفضل في إعادة التوظيف على مستوى العالم، فنحو 90 في المائة من المسرحين من أعمالهم يحصلون على وظائف مناسبة خلال عام مقارنة بنحو 30 في المائة في كل من فرنسا والبرتغال.

وهنا نقترح تبني هذا النظام وتوطينه، وتعيين أطر وكوادر له مؤمنة به، على ألا يكون مركزيا، بحيث يمكن تطبيقه على مستوى كل محافظة من محافظات البلاد على أن تجمعها هيئة عامة لها أمانة عامة، يشكل أعضاؤها من قيادات مجالس الآمن الوظيفي في المحافظات، وينشأ لها صندوق مالي في كل محافظة لدعم الأمن الوظيفي للمسرحين، وتساهم فيه الشركات.

ونفضل هذا النظام على كل الأنظمة الأخرى في العالم، لأنه نظام يحمل كل الصفات والمسميات، ويحقق الغايات الوطنية في عصر الجبايات، فهو تضامني، وهو إنقاذي، وهو إعادة تأهيل المسرحين لمهن أكثر دخلا، والكثير منهم سيكون من حملة الدبلوم العام "الثانوية العامة سابقا" وهو اكتشاف قدراتهم ومهاراتهم، وإعادة تدويرهم، وكذلك شغلهم بتطوير ذواتهم بعد حالة نضوج يمكن الرهان عليها في صناعة التحول، فوعيهم قد نما كثيرا بعد مرحلة الثانوية، ومن السهولة بمكان تقبل متطلبات البرنامج.

وسيُطبِق هذا النظام في كل مُحافظة من محافظات البلاد ورشَ عمل دائمة، تنتشل الشباب المسرحين من أفكارهم المظلمة وفقدان الأمل إلى فتح آفاق جديدة وطموحة تتناغم مع "رؤية 2040" في مجال إعادة النهوض بالمجتمع والاقتصاد، من هنا تكمن أهمية تبني وتطوير نظام "مجالس الأمن الوظيفي" فهي تعالج اختلالات التأهيل والتعليم والتدريب السابقة، وتعيد تدوير المسرحين لمهن جديدة أو تعزيز مهاراتهم ومن ثمَّ تسكينهم في بيئات العمل.