القلاع والحصون وبيوت الزجاج!

حمد بن سالم العلوي

إنَّ الذي ورث القلاع والحصون على أرض الأمجاد التاريخية، ليس كمن استحدث العمارة بالزجاج على الرمال المتحركة؛ فالأُولى تُشبه الأرض الطيبة الخصبة في مكامنها، حتى إذا أمطرتها هماليل الغيث اهتزَّت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج.

أمَّا الثانية فمثلها كالهباء المنثور، فإنْ هي هطل عليها المطر غاصت في الرمل، وإن حملت عليها الريح طارت في الهواء، وإن عصف بها المطر المصحوب بالبرد كسر زجاجها، وانتثرت شظاياها تؤذي ساكنيها، فلم يبق فيها رجاء لسكنى، أو لصنع تأريخ جديد؛ فهكذا يكون حال البلدان الطارئة على الزمان، فهي ليست جاهزة للفطم المبكِّر عن الإمبراطورية العُمانية ذات الشموخ والمجد الأصيل، فنقول لها رُويدك صغيرتي لا تصعِّري الخدَّ إلى الجانب الآخر البعيد، فأنتِ لا تزالين تحتاجين إلى الرِّعاية الأبوية، لكي تتعهدك حتى تُصبحين في مقام الدول العادية الحديثة، ويلزمك قرونًا عديدة من الدهر، حتى تلحقين بركب الإمبراطوريات العتيدة، فلا تغفلي عن قول الشاعر عندما قال لمن دونه في المقام: "غض الطرف إنك من نمير... فلا كعباً بلغت ولا كلاباً"؛ ففي الشعر حكمة بالغة يجب الأخذ بها.

لقد أغوت رغوة المال بعض الصِّبية، وصرفتهم عن الأخذ بالحكمة التي يفرضها واقع الحال، وزيَّن لهم بعض الأبالسة من المأجورين سوء أعمالهم، وذلك بظنهم أن أُسدَ الشراة من الممكن السيطرة عليهم بالكذب، والتهويل على صفحات تويتر وفيسبوك، ما زال هذا النوع من الدول في حاجة إلى سنين كثيرة حتى تتبلور مؤسساتها كدولة، ليعترف بها العالم ويستوعب وجودها، ولن يتأتَّى ذلك إلا بدعم صريح من عُمان المجد. لذلك نقول إن عُمان التي تملك شعباً أصيلاً أبيِّاً كريماً، فهي تملك به قوة البقاء، فلا تُصيخ السَّمع للتائهين في الأرض على غير هدى، وأنَّ هذا الشعب ليس مثل الكثير من شعوب الأرض، فقد أنعم الله عليه بنعمة العقل، وفضيلة الصبر، وسرعة البديهة، وقوة البصيرة، وحسن الخلق، والقدرة على التعايش مع شعوب الدنيا كلها، وفي كل بقاع الأرض تجد منه الحب والاحترام.

إذن، من عظائم النعم على عُمان، شعبها وجغرافيتها الخاصة، وحكمها الرشيد على مدى السنين والأعوام، فعُمان عبر تاريخها العريق والمديد، ظلت سيدة نفسها، وحافظة لكيانها، وحقوق جوارها، وتستجيب إلى نداء المضيوم، وترد الحقوق إلى أهلها، وتنشر العدل والسلام بين الأمم، ولا تتدخل في الذي لا يعنيها، وتحترم حق الجوار، وفي نفس الوقت ترفض بشدة تدخل الآخرين في شؤونها، وقد ظلت عبر التأريخ، تمثل الكنانة لكل العرب، والسد المنيع للشرق العربي، وحامية له ولهم من أطماع البغاة، فإن شئت التأكد من ذلك فاسأل التاريخ عنه، وستجيبك البصرة عن نجدتها، وسل الخليج بضفتيه مَن الذي أجلى الغزاة البرتغاليين عنه، وسل سقطرى عن نجدة الإمام الصلت بن مالك، فستروي لك قوتنا وشدة عزمنا صحائف الحق أينما كنت، فمثل هذا التأريخ لا يغطَّى بالدرهم أو الدولار، ولا يُستحوذ عليه قسراً بالحبر والورق.

لقد ظلَّت عُمان تعطي الدروس المجانية لأصحاب الألباب والعقول، لأن نهجها تجريه على نفسها، ولا تفرضه على غيرها فرضاً، حتى قالت الدول العظيمة كالصين وغيرها، إن العُمانيين ليسوا مجرد سفراء عاديين، وإنما هم سفراء للصدق والأمانة والأخلاق الحميدة والنوايا الحسنة، فعُمان يوم غطَّى وجودها مساحة كثيرة من الأرض والبحر، لم تفعل ذلك بالرشوة المالية عبر الخونة والفاسدين، ولا بالبطش والغدر واستئجار المرتزقة من كافة بلاد العالم، أو بالسجون السرية والتنكيل بالناس، وإنما كانت تبهر العالم بالعدل والسلام والقدوة الحسنة والخلق القويم، لذلك تهافت العالم عليها ينشد ودَّها، وتعاونها على الخير والمحبة، فنشرت الدين الإسلامي طوعاً ومحبة، ولم تنشره بالسيف والدم إلا لمن بغى واعتدى، أما في هذا الزمن، فإن الوسيلة تغيرت مع العقلاء، إلى الكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، إلا أن الأشرار ظلوا يعتمدون وسائل غير سوية لتحقيق أهداف غير منطقية، وسيكون مآلُها البوار والخزي والعار.

إنَّ الدرسَ الأخير الذي أجرته عُمان واقعاً، ألا وهو انتقال الحكم من سلطان إلى سلطان خلال 6 ساعات، فهذه البساطة والسهولة لا يضارعها حجم المنصب، وكبر المسؤولية والمكانة التاريخية لعُمان، لكنها هذه عُمان العظيمة بإرثها الكبير تكون كذلك، تسوق الدرس تلو الدرس، لأن شأن الوطن أكبر من شأن الإنسان، فيحق لمن لا يشبهنا في شيء، أن لا يصدق ذلك، وأن يستنفر شيكاته وسفاراته، لاستدعاء الحثالة المارقين من مخلفات الشعوب حول العالم، واستكرائهم لحمل أثقال الفتنة، والنعيق كالغربان بما لا يفقهون عن الشعب العُماني، فضعف الطالب والمطلوب، وسيعيدون الكَرَّة بالتقاتل على المناصب، وستفسد الجثث في ثلاجات الموتى، كما حصل ذلك من قبل، لأن الشخص "فلان" من الناس فوق الوطن، وفوق الشعب المقهور أصلاً -إن وجد هناك بقايا لشعب من الأرض المقتطعة.

إذن؛ الوارث لقيم الإمبراطورية تاريخاً وشعباً، والمرموز إليها بالقلاع والحصون، ليس سيان مع من ورث تاريخه على ظهر الناقة والبعير، والتخييم ثم الرحيل إلى مكان جديد، وظل محميًّا من الإمبراطورية من خوف وجوع، وشيَّدت عُمان لحمايته القلاع والحصون، فتارة حماية لهم بحراسة الجيوش العُمانية، وتارة في السِّلم يسكنها من كان يتبعنا هناك، فإذا ما داهمه خطر حتمى فيها حتى تصله نجدة السلاطين، فما طرأ من خير في الأرض عفَّ عنه الكرام لعلهم يخفُّون به على أنفسهم من كثرة الاستجداء والطلب، فانتزق من ذلك الخير من كان به مرض، وغرَّهُ كثرة ما طرأ باليد من مال في غفلة من الزمان، والذي لا يدوم إلا بشكر الخالق عليه، حتى تدوم تلك النعم.

ما كان للأمر داعياً للتذكير بالتاريخ، ولسنا نحن من يتباكى على أطلال الزمن، لكن الضرورة دعت إلى توعية من هاج به الغرور، وأصبح وأمسى يلوك باسم عُمان بالسوء، وذلك دون سبب منا ضده.

حفظ الله عُمان وشعبها الأبيّ، وسلطانها المعظم، من كيد الكائدين وحسد الحاسدين، وغفر الله لسلطانها الباني العظيم جلالة السلطان الراحل قابوس بن سعيد، وعطر ذكره بالفردوس الأعلى، وجعلها نزله الكريم يوم الدين.