أحاديث التاريخ الأدبية!

 

 

يوسف عوض العازمي *

تويتر: alzmi1969@

 

"وقائع التاريخ الكبرى عائمات جليد، طرفها ظاهر فوق الماء، وكتلتها الرئيسية تحت سطحه، ومن يُرد استكشافها فعليه أن يغوص" - محمد حسنين هيكل

 

قبل مدة ليست طويلة، قدم أحد الطلاب بحثا هو عبارة عن مطلوبية مادة لها علاقة بالتخرُّج في أحد المعاهد بتخصُّص له علاقة بالتاريخ، وقام الطالب بتقديم بحث هو يعتقد أنه تاريخي بكتابة أدبية، والمسؤول عن المادة يُجزم أنه مقال أدبي، وشتان بين الأدب والتاريخ.. وبالطبع، كانت الدرجة التي حصل عليها الطالب هي نجاح بالرأفة؛ أي أنه تمَّ رفع درجته رأفة به، وتعتبر نتيجته الحقيقية رسوب!

بعيدًا عن هذه التلميحة المدخلية لهذا المقال البسيط، أعتقد أنَّ الأدب داخل في كل أصناف الكتابة، وعندما نأخذ التاريخ كمثال، ما أجمل كتابته بحس أدبي، وصياغة تلمس بها جماليات الأدب وتموضع كلماته بين المعلومة والمعلومة، وسبر حيثيات التاريخ بتكاملاته المتكاملة كحدث متكامل تكمله النقلية المكتوبة، وتزينه مفردات الأدب وألفاظه الفارهة.

أعتقد أنَّ التاريخ يحتاج لكتابة فيها من الأدب، حتى تسهُل قراءته، وبما يُعطيه النكهة الأدبية دافعا لقراءة أَرْيَح للعقل، خُصوصا إنْ كان أسلوب الصياغة فيه توضيح موضح لواضح الحقيقة التاريخية، ويعلو شأن التحليل التاريخي بحسب الصياغة والعبارات الجازمة اللازمة لتوضيح ما فات، وإظهار ما خفي.

وَصلَنِي مرَّة تعبير بليغ يتداخل فيه التاريخ بالأدب، ويقرِّب الفكرة للقارئ والمهتم بطريقة جميلة؛ إذ كتبت المؤرِّخة العمانية د. أحلام الجهورية: "السيدة سالمة ببساطة ممتنعة أرَّخت شعور الفقد بوفاة والدتها، وشعور الحزن بفقدان والدها، وشعور الخذلان تجاه أخيها ماجد، وشعور التقديس لأختها خولة، وشعور الظلم من أخيها برغش، وشعور الغربة في ألمانيا، وشعور الحنين إلى الوطن (زنجبار) وغيرها الكثير".

تعبير المؤرخة الجهورية جمعتْ فيه بين الحدث والتأريخ والحس الأدبي، والحاسبة اللفظية للمفردات؛ حيث لخَّصت كل قصة لوحدها بعبارة واحدة مختصرة جدا، لكنها تؤدي الغرض المعلوماتي المطلوب، وهنا يظهر ما أرمي إليه، وهو أنَّ إدخال الصيغة الأدبية لن يُضيع المعنى، لكنه يسهِّل الفهم، ويوصِل المعنى بسلاسة.

في مناسبات عديدة يشتكي المؤرِّخون الأكاديميون من قلقهم حيال كتابة التاريخ كما اتضح في كتاب "كيف تكتب تاريخا يرغب الناس في قراءته" (2011) لآن كورتيز وآن ماكغراث. مرة أخرى، يردد هذا الكتاب صدى مخاوف سكوت حول المؤرخين الذين ينتجون روايات خالية من "تفاصيل مثيرة للاهتمام" و"مرصعة بصدأ العصور القديمة". بطبيعة الحال، الصورة النمطية للمؤرخ الأكاديمي غير القابل للقراءة غير صحيحة؛ فقد حاز مؤرخون كُثر على جوائز كبرى في الأدب. في حين قام آخرون بتأليف أعمال ذات تأثير شعبي واسع، بينما أسهم آخرون في النقاش العام من خلال التليفزيون والإذاعة والوسائل الرقمية".

وفي فترة توهُّج التليفزيون المصري، أنتج مسلسل "ليالي الحلمية" لمؤلفه السيناريست الشهير أسامة أنور عكاشة، والحقيقة أنَّ هذا المسلسل رغم خياليته الشكلية باعتباره بالأساس نصًّا روائيا، إلا أنه مُتخم بالتاريخ وحوادثه، وكأنه يؤرخ -وإن كان بشكل ضمني- لمرحلة من المراحل المعاصرة للتاريخ الاجتماعي المحلي في مصر؛ حيث أرخ بشكل ضمني للعديد من العلاقات الاجتماعية، مُستخدما "الحارة" المصرية كميدان زاخر لهذه الأحداث المؤرَّخة روائيا، وهنا يبدو تزاوج التاريخ بالأدب، وعمل خلطة تتيح قراءة التاريخ بصيغة أدبية، لا تُشِيد بهذا، ولا تسيء لذاك، معتمدة على ذكاء القارئ، كذلك السيناريست الكويتي عبدالأمير التركي كتب باحترافية مسلسل "درب الزلق" الشهير الذي يوثق "الفريج" الكويتي في فترات ما قبل النفط.

هنا.. يبدو واضحا أنَّ الخلطة السحرية بين التاريخ والأدب لا يجيدها إلا القلائل من المبدعين؛ لأن استيعاب القارئ للحدث التاريخي إن أتى بصياغة متأدبة مؤدبة بالأدب ستكون استساغة الحدث أوفى، صحيح هناك من يجزم بعدم فائدة الصياغة الأدبية للتاريخ خشية تحوله إلى أشبه بالكتابة الروائية، واحتمال تواجد شبهة إدخال الخيال لتجسيد مشهد تاريخي معين، أو شرح حيثيات ووقائع تاريخية، لكني -وعلى طريقة لا ضرر ولا ضرار، ولا إفراط ولا تفريط- أؤيد التقيُّد بثوابت واضحة، وقواعد قاطعة للمؤرخ عندما ينقب عن أسرار التاريخ وحوادثه المثيرة للاهتمام، باعتماده أسسًا وقواعد متينة تُبنى من الثقة وإحكام القول، والتعامل بجدية مع الأدوات المصدرية، والمراجع ذات الصلة بالحدث، حتى يصل المؤرخ في بحثه إلى نتيجة معقولة ومناسبة لإدراك الثقة المطلوبة.

 

* كاتب كويتي