د. عبدالله باحجاج
سلطنة عُمان مُنذ انطلاقتها التاريخية يوم الثالث والعشرين من يوليو 1970، يُمكن توصيفها كالآتي: دولة معاصرة متجددة ومتفاعلة ويقظة.. قد اختارت التنمية الشاملة بديلاً عن التخلف والجمود، ولن تحيد عنها، وقد تبنت المنهج الكلاسيكي في مسيرة بنائها وتحديثها وعصرنتها، غير منقطعة عن مراحلها السياسية وإنما متكاملة معها نهجاً ونسقاً وسياقاً وفق الثابت المُقدس والمتغير المستجد بهوامش كبيرة تمنح الأداء السياسي دفعة لمواجهة التحديات التي قد تطرأ على الثابت.
وقد تجلى ذلك بصورة واضحة منذ اليوم الأول لتسلم عاهل البلاد جلالة السلطان هيثم بن طارق حفظه الله – وأيده بنصره، الحكم في 11/1/2020، وقد تناولنا خطاب جلالته في مقالين، ودللنا على طرحنا سالف الذكر، وبالذات المنهج الكلاسيكي في استمرارية الدولة العُمانية الحديثة مهما تعاقبت عهودها السياسية وفي مختلف حقبها التاريخية.
من هنا يُمكن القول إن يوم الثالث والعشرين من يوليو 1970، قد خطط له لكي يكون حاكمًا لكل العهود السياسية التي ستعرفها السلطنة بدءًا من عهد المؤسس الراحل السلطان قابوس –طيب الله ثراه-، ووقوفاً عند عهد جلالة السلطان هيثم بن طارق نصره الله، واستمرارية للعهود اللاحقة، وبالتالي فذلك التاريخ يشكل انطلاقة سياسية ليست لعهد من العهود، وإنما لكل العهود السياسية، وهذا تفكير استراتيجي بعيد المدى، يعزى له الانتقال الهادئ والتلقائي للحكم، ويؤسس لديمومة الاستقرار السياسي في بلد له أهمية إقليمية وعالمية مُتنامية للعالمين الحالي والجديد.
تلكم رؤية عميقة قد أوضحناها في أحد المجالس النقاشية في صلالة الإثنين الماضي أثناء حديثنا عن آخر التطورات المحلية والعالمية، وهذه النقاشات قد كشفت لنا أهمية التعاطي معها عبر تفاعلاتنا الصحفية، لأنها رؤية تضع مستقبل بلادنا ضمن الثابت والمُتغير على الصعيدين الداخلي والخارجي، وفق حاكمية الثالث والعشرين من يوليو 1970، بحيث يكون الثابت مقدسًا والمتغير يتم التعاطي معه وفق سياقات الثابت وليس خروجاً عنه.
لن نواصل كثيرا في هذا الجانب النظري أو التنظيري، وربما يكون من الأهمية تقديم أمثلة للتوضيح والدلالة عليه، فلو انطلقنا من علاقات بلادنا الخارجية، فسنجد أن المؤسس الراحل رحمه الله قد جعل من السلطنة "أهمية استراتيجية" لكل الفرقاء في منطقة الشرق الأوسط، يلجأ إليها لتقريب وجهات نظرهم وحل خلافاتهم والمساعدة على وقف توتراتهم وحروبهم، وهذا واضح للعالم كله، ويدركه كل عماني ويؤيده لأنه خيار عقلاني قد أنتج السلام والاستقرار لكثير من دول المنطقة.
وهذه "الأهمية الاستراتيجية" لبلادنا قد جعلتها تقف مع الفرقاء على قدم المساواة، مما أكسبها الصدقية والمصداقية والقبول، ويشيد بها كل الفرقاء.. ومن هذا الثابت، بدأ الرأي العام المحلي متحفظاً على مستجد مشاركة السفيرة العُمانية في مؤتمر يطلق عليه صفقة القرن، المستجد ظهر للرأي العام بأنَّه لا ينسجم مع الثابت - أي تلكم الأهمية الاستراتيجية- لكل الفرقاء، من هنا يبرز لنا أن هناك رأياً عاماً قوياً إلى جانب مؤسسات ثابتة ومستقرة تشكل الضمانة لاستمرارية الثابت من نقطة الثالث والعشرين من يوليو 1970.
والمثال الثاني على الثابت المُستمر "رؤية عمان 2040" التي تحمل طموحات ضخمة لمُستقبل البلاد، وهي ستستمر، لكن تحدياتها ستكون من المستجدات والمتغيرات التي تستوجب التعاطي معها سياسياً، أي عدم ترك المسؤولية للفريق الحكومي لوحده، مع أن الدواعي كلها تستوجب تغييره وتحديثه لدواعي تنفيذ الرؤية بعقول بعيدة كل البعد عن إخفاقات "رؤية 2020"، ولديها فكر مُختلف خال من أية ارتباطات تبعية للوبيات المتمصلحة والمتنفذة، لأننا في هذه الرؤية نحضر بلادنا لمستقبل جديد شكلاً ومضمونًا.
فمثلاً، في محور الإنسان والمجتمع، تستهدف الرؤية مجتمعاً، إنسانه مبدع عبر التعليم الشامل المستدام والنظام الصحي الرائد بمعايير عالمية ومجتمع معتز بهويته وثقافته وحياة كريمة مستدامة للجميع، وهنا نتساءل: هل استمرارية النخب في مثل هذه القطاعات ستحقق هذه الأهداف الاستراتيجية الكبرى للمجتمع وللدولة عامة؟
وتستهدف الرؤية كذلك، مُضاعفة النصيب الحالي للفرد من الناتج المحلي، وتحقيق معدل نمو 6 بالمائة والوصول إلى 93 بالمائة كمساهمة للقطاعات غير النفطية في الناتج المحلي وأن تكون حصة العُمانيين في وظائف القطاع الخاص 42 بالمائة على الأقل ورفع نسب الاستثمار الأجنبي إلى 10 بالمائة من الناتج المحلي، ولو أجرينا استطلاعًا، هل سنجد المواطنين يثقون بالفريق الحالي في تحقيق مثل هذه الأهداف الاقتصادية وانعكاساتها الاجتماعية المُباشرة؟
لذلك فمواجهة التحديات الجديدة، تحتاج لفكر تنفيذي منتج وليس آليا أو تبعيا، حريصا على تحقيق الأهداف في مساراتها الصحيحة والوطنية، وهنا نبوح بهاجس بصوت عال، وهو أن بعض مسارات الرؤية قد توظف إيجابًا أو سلباً حسب طبيعة القائمين على تنفيذها، مثلاً اعتمادها على نسبة "80%" من الاستثمارات الخاصة المحلية والأجنبية، فكيف سيتم بلورة هذا المسار؟ هاجسنا هنا يكمن حول إمكانية تحويل بلادنا إلى شركات تدير البلاد، وتتحكم في مصائر العباد حتى في مجال الخدمات، وهذا لن يستقيم مع طبيعة المكون الاجتماعي للدولة العُمانية.
وهذا يوضح لنا أهمية الفريق التنفيذي وخلفياته في تنفيذ الرؤية، فلو لم يتوفر لدينا هذا الفريق بحجم طموحات الرؤية الوطنية، فإنَّ هاجس الشركات الربحية وتحكمها حتى في تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين، ستلتهم إنجازات النهضة الاجتماعية، ومعها سيسود قانون تعظيم الأرباح الخاصة للشركات من جيوب المواطنين، لذلك فإنَّ الانطلاقة الثانية للنهضة العمانية تتوفر لها كل عوامل وأسباب تغيير النخب الاستشارية والتنفيذية، وهنا مناط نجاح الرؤية والعكس- لا قدَّر الله- وهنا منطقة الرضا الاجتماعي، وهذا الرضا أحد العوامل الأساسية للنجاح وديمومة الاستقرار، والانفتاح عليه من أولويات الانطلاقة، وكسبه سريعًا حتمية من حتميات تحقيقه سريعًا عبر انفراج مجموعة ملفات؛ منها: الباحثين عن عمل، والمسرحين، والمتقاعدين، والترقيات، وهي ومثلها قد أصبحت معلومة، ولا يمكن القفز عليها في انطلاقة نهضتنا الثانية.