سامية

...
...
...

قصة قصيرة بقلم سالم بن نجيم بن محمد البادي

 

 

في الحافلة المُنطلقة من العاصمة إلى الشرق أجلس في الكراسي الخلفية، الأصوات خافتة همسات بين رجل وزوجته، أصدقاء يتبادلون الأحاديث بين فترة وأخرى، بعض الركاب وضعوا رؤوسهم على مُقدمة الكراسي أو أسندوها إلى الخلف وراحوا يغطون في نوم عميق، وحده الشيخ جامع الكُمساري يقطع الممر الفاصل بين الكراسي جيئة وذهاباً، يتأكد من وجود التَّذاكر مع كل الركاب متوقعاً ظهور المفتش بغتة وهو يلوح بيده للحافلة لتقف، الحرارة لا تُطاق والمكيف أعلن عجزه عن التخفيف من وطأة الحر، تمتد الأيادي والأعين إلى المكيف كأنما تستجديه مزيدًا من الهواء البارد.

فجأة تحدث جلبة وهرج ومرج وكنت لا أبالي بالحوادث التي تقع عادة بين الركاب وقد ألفتها لكثرة أسفاري شدَّ انتباهي منظر الشيخ جامع يرتعش ثم يسقط على كرسيه بعدما تلقى لكمة قوية على صدره، تدافع الركاب لرؤية ما يحدث ووقف بعضهم في أماكنهم يرقبون المشهد.

الشاب الأرعن يقوم من مكانه ليجلس بجانب امرأة شابة كانت تجلس وحدها في الكراسي الأمامية المُخصصة للنساء حاسرة الرأس تعبث بشعرها الطويل تحاول إزاحته من على خديها ترتدي تنورة قصيرة تصل إلى أعلى الركبتين قليلاً وقميص يُظهر كتفيها وشيئاً من صدرها يذهب إليه الشيخ جامع: يا ولدي هذا لا يجوز المرأة أجنبية عنك حرام أن تجلس بجانبها ينظر إليه الشاب غاضباً ويخاطبه بلغة عنصرية حادة (وأنت اشو يخصك ياالعبد) وجامع مُحصل النقود شيخ وقور وهادئ يشرق وجهه بعلامات التدين؛ كبير العمر يصبغ لحيته الكثة الطويلة بالحناء، شديد سمار الوجه سمعته من قبل ينصح أحد الركاب قائلاً: التدخين ممنوع في الحافلة ويضر بصحتك والله حرَّم ما يضر وقال لشاب جاءه يحمل شريط أغانٍ يُريد أن يُشغله في آلة التسجيل في الحافلة رافضاً: نُريد ما يُذكرنا بالله وليس الهوى أقتربت من الشيخ جامع محاولاً تهدئته وذكرته بالله كما يحب وحدثته عن العفو والصفح والإعراض عن اللغو ومقابلة الإساءة بالإحسان واحتساب الأجر عند الله.

حين وصلنا إلى المحطة الأخيرة انتظرته حتى سلَّم النقود والتذاكر المتبقية إلى مُحاسب المحطة.

أوصلته بسيارتي التي اعتدت أن أوقفها في مواقف المحطة إلى بيته في الحارة القديمة التي يسكنها الوافدون من باكستان وإيران والصومال والسودان وبنجلاديش وفلسطين واليمن، أصر الشيخ على دخولي إلى البيت واسترسل في الحديث عن مشاكله مع الركاب ومتاعبه الصحية وسبب قدومه إلى هنا والحروب الأهلية والمجاعة التي أجبرته على الغربة.

علمت أنَّه يعيش مع ابنته التي ماتت أمها بلدغة ثعبان في بلدهم وماتت اثنتان من أخواتها بسبب أمراض سوء التغذية.. رجعت ابنته من المدرسة المسائية لتعليم الكبار.

"سامية ابنتي"، قال الشيخ.

توطدت العلاقة بيني وبين الشيخ جامع ورجاني أن اسمح له أن يناديني بقوله "يا بني".

وقال: "لقد أحببتك... لا تتركني". وكان يتقرب إليَّ وأنا أحاول التهرب وحجتي مشاغل الحياة والدراسة، غير أنني كنت أشعر بالشفقة نحوه، وكنت أقدم له بعض الخدمات أوصله إلى العيادة ليأخذ دواء ارتفاع ضغط الدم، وفي كل جمعة يُريد الذهاب إلى السوق ليشتري ما يلزم البيت لمدة أسبوع أخذت أتردد على منزلهم ونصلي معًا في مسجد الحارة.

وسامية تفر حين تراني، لكن تطبع في ذهني صورة وجهها المُمتلئ الصافي وقوامها الطويل، وأنفها الدقيق وفمها الصغير، هي أبنوسة أفريقية تبتسم ثم تختفي، تضع الطعام وراء ستائر بالية تنادي والدها لأمر ما، تمر سريعًا بين ردهات المنزل، تسألني أحيانًا عن بعض المواد الدراسية وتشكو من صعوبة اللغة العربية، أقول لها "سوف أذاكر لك"، ووعدتها بمُساعدتها في اللغة العربية والتربية الإسلامية والتاريخ والجغرافيا واللغة الإنجليزية.

أرى امتعاض والدها وكان يشير إليها بالعصا "اذهبي كفى"!

ألفتُ سامية وألفتني، وقد لاحظ الشيخ ذلك، ولم يعد يُرحب بي، وتغيرت نظراته الحانية إلى نظرات اتِّهام وتخوين.

نشب صراع عنيف في نفسي، حب سامية وخيانة والدها، عذبني ضميري وقهرني العشق وهي تطاردني وأطاردها وتستحوذ على كل فكري وأوقاتي، أهملت دراستي الجامعية وصرت أكلمها بالهاتف في كل حين وبين المحاضرات، وقد تفوتني المحاضرة وأنا مندمج في الحديث معها.

قلّت زياراتي إلى بيتهم خوفاً من افتضاح أمرنا أمام الشيخ، وهو يُلاحظ ذلك ويصمت على مضض.

انتظر الحافلة الصفراء كل ليلة قادمة من المدرسة المسائية أحوم في الحارة والطرقات والسكك، تكلمني بالتفصيل عن دراستها ومُعلماتها وصديقاتها وعن أشياء أخرى، وتلح عليَّ وتتوسل أن أتقدم لخطبتها.

أخذتُ اتحين الفرصة السانحة لأكلم والدي، اندهش أبي وأشاح بوجهه الذي اعترته بوادر حزن عميق، أخبرته مرات كثيرة برغبتي في الزواج من سامية، وقال لي: "لو أنَّ لي مكان آخر غير هذا البيت لتركته لكم وذهبت".

عرفت ألا فائدة من الحديث مع أبي، فهو لن يوافق ولا استطيع مخالفة رأيه، كلمت أمي وقالت لي: "شو بيقولوا عنَّا الناس"، عرضت الأمر على أهلي فسخروا مني جميعًا وتعالت ضحكاتهم: "ما قاصر إلا أنا نشوف أولادك تارسين البيت وكأننا نشاهد بعض أطفال أفريقيا الجوعى في التلفاز"، إنها العنصرية مرة أخرى تجاه لون سامية.

أصبحنا أنا وهي مادة للسخرية والتندر في العائلة، فبتُ أعيش ألم الحب والتوجس من الفراق.

انتشرت حكايتي وأصبحتُ منبوذاً وتتناهى إلى سمعي عبارات العنصرية "كأنه خلصن بنات البلد بيتزوج وحده سوداء أجنبية"، جريمتي عشق إنسانة، وجريمة سامية لونها، لا قوانين تحكم الحب ولا يعترف بجوازات السفر واختلاف الألوان والأوطان واللغات.

تحولت أُبوة الشيخ جامع لي إلى نفور وعداوة، وقرر أن يُرسل سامية إلى بلدهم.

زادت أمراضه وعجز حتى صار مضطرا لقبول مساعدتي له في شؤون حياته.

داهمه الموت في فراشه فجراً بعد ذهاب سامية وخبت جذوة حب سامية في نفسي، إلا من بعض الحنين والأشواق والذكريات، وفكرة البحث عنها لا تُفارق مخيلتي، قررت السفر بحثاً عنها تحت ذريعة تسليمها أمانة تركها والدها، مبلغ زهيد من المال، لا أعرف لها عنواناً، أعرف اسمها واسم قريتها، وصلت عاصمة بلدها غريباً بقايا رجل وفتافيت مشاعر، لم أتبين ما هي شفقة.. خوف.. قلق.. أم فضول؟!

المناوشات بين المليشيات المُتصارعة على أشدها في ذلك البلد، لا أهتم أنا المغامر الذي تؤلمه الرتابة أكثر من المخاطرة، ولا أدري هل أنا جاد برغبتي في رؤية سامية، أعلم أن كل شيء قد انتهى ويغلب على ظني أنها تزوجت أو ماتت، لكن ينتعش لدي الأمل من جديد وأفكر لو وجدتها لأقنعتها بالعودة إلى بلدي.. نعم خذلتها بعدم الزواج وأصغيت إلى كلام عائلتي والمجتمع، لقد كنت جباناً وضعيفًا ومترددًا.

الآن يشغل بالي أمر العثور عليها، مكثتُ أيامًا أبحث عن طريق للوصول إليها، وفي يدي ورقة مكتوب عليها اسم قريتها، كثيرون لم يسمعوا عنها، وآخرون لا يستطيعون الذهاب هناك لخطورة الطريق بسبب الحرب وقطّاع الطرق، لكنني قررت ألا أعود قبل العثور عليها.

أحاول إخفاء هويتي خشية النصب والاحتيال، أو حتى القتل، حكيت قصتي لإمام المسجد، وقد وعدني بالبحث عن من يستطيع أخذي إلى تلك القرية وقد عثر عليه أخيرا.

اتفقنا على السفر وساعة الانطلاق والأجرة، أخذ السائق معه بندقية وذخيرة وما يكفي من الوقود للسيارة وتكفلت أنا بالطعام الذي يكفينا.

قدر السائق أن الرحلة قد تستغرق ثلاثة أيام أو أكثر!!

حرٌ وغبارٌ وجفافٌ يكسو كل شيء، أغنام نافقة وأبقار وجمال هزيلة والناس في قراهم كأنهم لا يعملون شيئاً غير انتظار المطر أو قوافل الإغاثة، كنا نسير ليلاً ونهارًا، نرتاح قليلا آخر الليل ووقت القيلولة حين هجم علينا قطاع طرق انتزعوا من السائق البندقية والذخيرة وخطفوا شطيرة كنت أهم بأكلها ثم ذهبوا.

وصلنا إلى القرية بعد أن تهنا مرات كثيرة، فبيوت القرية أكواخ متناثرة، ونحن نسأل عن سامية بنت جامع من بين نسوة عليهن سيماء العوز والجوع، ملابس رثة وأطفال جوعى وعرايا، الذباب يملأ وجوههم، وسامية هزيلة زائغة النظرات وجنتاها ناتئة عيناها غائرتان لم تعد هي سامية التي عرفتها، طفل في حضنها وآخر ملتصق بظهرها، صُعقت سامية حين رأتني، وهرعت إلى كوخها مسرعة ونظراتها تغني عن كل كلام، لم أتكلم ولم تتكلم وضعت أمامها أمانة والدها وبعض النقود والهدايا، وعدت من حيث أتيت، أُداري دموعي وخيبات الأمل، وكانت رغبتي الوحيدة أن أعود إلى بلدي سالما، وقد أسدلتُ الستار على حكاية سامية والشيخ جامع وأنا.

تعليق عبر الفيس بوك