"جوهرة مسقط" و"شباب عُمان" والكراسي والمراكز العلمية.. منارات مضيئة في سماء الإنسانية

الهدايا السلطانية إلى دول العالم.. رسول محبة وسلام لتعزيز التواصل الحضاري

 

حفل العهد الزاهر للمغفور له بإذن الله تعالى جلالة السلطان قابوس بن سعيد- طيّب الله ثراه- بالعديد من المنجزات الحضارية والإنسانية، على المستويات كافة، وأحد أبرز هذه المنجزات الإنسانية، العلاقات الوطيدة التي رسختها الرؤية الثاقبة لجلالته مع مختلف دول العالم، عبر نهج دبلوماسي فريد استند في جوهره على البعد الإنساني والتواصل الحضاري مع الآخر، وليس فقط على أساس من المصالح المشتركة التي تقوم عليها معظم العلاقات الدولية.. ولا شك أنّ الهدايا السلطانية التي قدمها جلالته لمختلف دول العالم والمنظمات الدولية، دليل راسخ وبرهان ساطع على أنّ الدبلوماسية العمانية المتفردة شيّدت صرحا شامخا من القوة الناعمة العمانية، كانت بمثابة رسول اتصال إنساني ومعرفي وحضاري، عكس مكانة عمان العالمية، ومثّلت امتدادًا للجذور التاريخية الضاربة في عمق الحضارة الإنسانية.

ويؤكّد عدد من خبراء السياسة والدبلوماسية أنّ الحكمة القابوسية غير المسبوقة صاغت سياسة خارجية متوازنة احتفظت بعلاقات متينة مع شتى دول العالم، وحصدت نتائجها على مدار 50 عامًا من النهضة التي لم تنقطع، فحازت عمان على ثقة واحترام العالم أجمع بلا استثناء.

 

الرؤية- مريم البادية

 

فعلى مدى 5 عقود تميّزت النهضة المباركة للمغفور له جلالة السلطان قابوس – طيب الله ثراه – بالتواصل الانساني والحضاري الذي جاب مختلف دول العالم، وتمثّل ذلك في سفينة "شباب عمان الأولى" منذ عام 1979 والتي سجلت مسيرة الخير والعطاء والإنجازات الخالدة التي سطرتها بعدما مخرت عباب البحار والمحيطات إلى مختلف دول العالم، لتأتي بعدها سفينة "شباب عمان الثانية" و "جوهرة مسقط" التي وصلت الأرض السنغافورية؛ إلى جانب حمل رسالة العلم ونوره من خلال الكراسي والمراكز السلطانية المتوزّعة على دول العالم.

ويقول الدكتور عمران العبري، محاضر بكلية العلوم السياسية بجامعة السلطان قابوس، إنّ عادة السلطان قابوس رحمه الله في الإهداء تدل على فهم واطلاع عميق بالدبلوماسية وأحوال الدول وتاريخها، ويعد تبادل الهدايا سياسة ناعمة مع الدول الصديقة، تعود أصولها إلى العصور الوسطى وبالتحديد في الصين واليابان، وحالياً كثيرا ما يطلق عليها "دبلوماسية الباندا Panda Diplomacy".

‏وأضاف العبري أنّ أكثر ما يميز هدايا السلطان قابوس رحمه الله للدول الصديقة أنها هدايا مختارة بعناية، وتحمل رموزا ودلالات عميقة، فعلى سبيل المثال فإنّ هدية السلطان قابوس رحمه الله لسنغافورة كانت سفينة شراعية "جوهرة مسقط"، واختيار هذه السفينة كان يرمز إلى العلاقات التجارية التاريخية بين السلطنة وسنغافورة بشكل خاص وشرق آسيا بشكل عام.

وأوضح العبري أنّ من الهدايا المختارة بعناية كانت هدية السلطان قابوس إلى السفارة الأمريكية بمسقط، والتي كانت عبارة عن رسمة في لوحة فاخرة. هذه الهدية رغم بساطتها تحمل دلالات عميقة؛ فالجزء الأعلى من اللوحة كان رسمة للمبعوث العماني أحمد بن النعمان أثناء وصوله لنيويورك عام ١٨٤٠م، وفي الأسفل صورة لنفس المكان في نيويورك بعد ١٧٧ سنة، أي عام 2017.

من جهتها، ذكرت الدكتورة بدرية النبهانية، الباحثة في التاريخ العماني، أنّ فكرة بناء سفينة جوهرة مسقط نبعت عندما كان وزير الخارجية السنغافوري في زيارة رسمية للسلطنة في عام 2006، وكان الهدف إعادة العلاقات التاريخية مع سنغافورة، فاقترح جلالة السلطان الراحل- رحمه الله- بناء السفينة مرة أخرى وإهداءها لسنغافورة.

وأضافت أنّه تمّ الاتفاق بين حكومة سلطنة عمان وجمهورية سنغافورة، على أن تتحمل السلطنة تكلفة بناء السفينة بأكثر من مليوني ريال عماني، في حين تكفّلت حكومة سنغافورة بدعم رحلة السفينة حتى وصولها إلى سنغافورة والتي أبحرت في عام 2010.

وأكدت النبهانية أنّ هذا ما هدف إليه السلطان قابوس- طيّب الله ثراه- من رعاية مثل هذه المبادرات التي ظهرت في سفينة شباب عمان الأولى والثانية أيضا، إلى جانب هذه السفينة وسفن أخرى، هو إعادة تاريخ عمان البحري مثلما كان، وكذلك زيادة التواصل بين الدول في المحيط الهندي، مشيرة إلى أنّ الرسالة الرئيسية لهذه الرحلة هو أنّ بإمكاننا أن نكون أفضل من ناحية علاقتنا مع بعضنا بعضا.

بدورها قالت الدكتورة بدرية الشعيبية، مشرفة أولى تاريخ في وزارة التربية والتعليم، إنّ هدايا السلطان الراحل رحمه الله لم تقتصر على وطنه بل كانت موجهة للعالم أجمع، وما ميز هذه الهدايا أنّها خدمت أهدافا سامية وجليلة، قصدت الإنسان بغض النظر عن جنسه ولونه ودينه، وعززت فكره، وأنارت دربه.

وأضافت الشعيبية أنّ من بين الدول التي منحها جلالته- رحمه الله- بعضا من سخاء كرمه، دولة لبنان الشقيقة وشعبها المناضل والصامد أمام العدوان الإسرائيلي؛ حيث سعى - رحمه الله- لدعم الإنسان اللبناني ثقافيا وفكريا.

وأوضحت أنّ السلطان قابوس أنشأ المركز اللبناني العماني للثقافة والفنون في وسط العاصمة بيروت، بهدف دعم المبادرات الثقافية للشباب اللبناني، وتحقيقا للتلاحم الثقافي بين الثقافة العربية والثقافات الأخرى.

وأشارت إلى أنّه تمّ وضع حجر الأساس لهذا الصرح الثقافي في الخامس من يناير عام 2009، وكان لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- كلمة في ذلك الوقت- عندما كان جلالته وزيرا للتراث والثقافة- قال فيها إنّ أحد أبرز أهداف إنشاء هذا المركز تدعيم التعاون الثقافي بين اللبدين الشقيقين، وتشجيع المجتمع المدني على تقديم مبادرات ثقافية تدعم روح التواصل والمحبة بين الإنسانية. وتابعت الشعيبية أنّه خلال تلك الزيارة منح فخامة رئيس اللبناني العماد ميشيل عون، جلالة السلطان هيثم بن طارق -أعزه الله- وسام الأَرز برتبة كومندور؛ لدوره في خدمة الثقافة والعلاقات الثنائية بين البلدين.

وتابعت الشعيبية أنّ من الهبات السلطانية في لبنان المركز العالمي للحوار "لقاء" الذي بُني بمكرمة سامية من جلالة السلطان قابوس- رحمه الله- في منطقة الربوة شرق بيروت، وافُتتح في العاشر من مايو 2011، وأشاد البطريرك غريغوريوس الثالث بطريرك الروم الملكيين الكاثوليك في حفل الافتتاح أثناء كلمته بالسلطان قابوس وقال: "ما كان لهذا الصرح أن يرى النور لولا مكرمة إنسان واسع الآفاق، نير الفكر، كبير القلب، ومحاور، ورئيس، وقائد حكيم، منفتح على شعبه ومواطنيه، وعلى العالم العربي، لا بل على العالم بأسره عنيت به جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم سلطان عمان".

وذكرت الشعيبية أنّه في عام 2006 نتج عن العدوان الإسرائيلي تدمير الكثير من المباني في لبنان، فمنح السلطان قابوس هبة مالية لإنشاء مدرستين نموذجيّتين في مدينتي طرابلس وصيدا، تُدرّس بهما جميع المراحل الدراسية.

ومن جهتها قالت الدكتورة بهية العذوبية، مشرفة وباحثة في التاريخ العماني بالمديرية العامة للتربية والتعليم بمحافظة شمال الشرقية، إنّ جلالته -رحمه الله- كان يؤكّد على أنّ الإرهاب اعتداء على السلام الذي تنشده البشرية وتسعى إليه وعلى الاستقرار والأمن الدوليين الذين تعمل عمان مع الأمم الأخرى على توطيدهما وترسيخهما.

وأضافت أنّ عمان تدين مثل هذه الأفكار الضارة وتستنكرها وتدعو إلى التصدي لها ومعالجة أسبابها، وبالتالي من خلال هذه الرؤية كان جلالته- طيّب الله ثراه- يسعى إلى تقديم الصورة الصحيحة للثقافة العربية والإسلامية للشعوب الأخرى من خلال دعم النشاط العلمي والأكاديمي في عدد من الجامعات الغربية لدراسة الثقافة العربية والإسلامية وفهمها بشكل موضوعي وتوسيع نطاق التواصل مع مراكز الأبحاث والجامعات الأخرى.

وأبرزت العذوبية تجليات ذلك الاهتمام في "كراسي السلطان قابوس العلمية" التي تعد من أبرز الهدايا التي قدمها الراحل للمجتمع العالمي، وقد هدف جلالته- رحمه الله- من ذلك إلى تنمية المعرفة الإنسانية وتشجيع الحوار بين الشعوب والحضارات للوصول إلى مجتمع عالمي يسوده السلام، ويعمه التفاهم المشترك والتسامح واحترام ثقافة الآخر وبناء الصداقات، هذا فضلا عن إبراز الدور العماني الفاعل في خدمة القضايا العلمية العالمية بأسلوب معاصر.

وقالت العذوبية إنّ من أبرز كراسي جلالة السلطان قابوس- طيّب الله ثراه- كرسي السلطان قابوس بن سعيد في الأدب العربي والإسلامي والذي تمّ تأسيسه عام 1980م، وكرسي السلطان قابوس للغة العربية الذي أنشئ عام 1993م وكلاهما في جامعة جورج تاون الأمريكية، وكرسي صاحب الجلالة السلطان قابوس للاستزراع الصحراوي بجامعة الخليج العربي بمملكة البحرين عام 1994م.

وأضافت العذوبية: وهناك كرسي أستاذية سلطان عمان في العلاقات الدولية بجامعة هارفرد الأمريكية بكلية كيندي للدراسات الحكومية عام 1999، وكرسي سلطان عمان للدراسات العربية والإسلامية بجامعة ملبورن بأستراليا الذي تم تأسيسه عام 2003، وكرسي زمالة سلطان عمان الدولية في مجال الأدب والدراسات الإسلامية والاجتماعية بجامعة أكسفورد بمركز أكسفورد للدراسات الإسلامية بالمملكة المتحدة عام 2004.

وتابعت أنّ من بين الكراسي؛ كرسي السلطان قابوس لتقنية المعلومات بجامعة الهندسة والتكنولوجيا في لاهور بجمهورية باكستان، وكرسي صاحب الجلالة السلطان قابوس للدراسات العربية المعاصرة عام 2005، وكرسي أستاذية السلطان قابوس للديانات الإبراهيمية والقيم المشتركة عام 2011، وكرسي زمالة السلطان قابوس للرياضيات بكلية كوربوس كريستي الذي تأسس عام 2014؛ وجميعها بجامعة كامبردج بالمملكة المتحدة، وكرسي السلطان قابوس للإدارة الكمية للمياه بجامعة أترخت (أكاديمية روزفلت) بمملكة هولندا والذي أنشئ عام 2005؛ وعرفانا من الحكومة الهولندية بجهود جلالة السلطان قابوس -طيّب الله ثراه- في خدمة قضايا السلام قامت بتمويل الكرسي لمدة 8 سنوات قبل أن يتم تمويله من السلطنة.

وأشارت إلى وجود كرسي السلطان قابوس لدراسات اللغة العربية بجامعة بكين بجمهورية الصين الشعبية عام 2007، وكرسي السلطان قابوس للدراسات الشرق أوسطية بجامعة طوكيو باليابان عام 2010، علاوة على كرسي أستاذية السلطان قابوس لدراسات الشرق الأوسط بجامعة وليام وماري الأمريكية والذي تأسس عام 2011، وأيضا كرسي سلطنة عمان في جامعة آل البيت المعروف بوحدة الدراسات العمانية والذي تأسس عام 1997 بالمملكة الأردنية الهاشمية.

تعليق عبر الفيس بوك