رسالة عمانية من الذهب السياسي الخالص

د. مجدي العفيفي *

السطر الأول:

في 23 يوليو من عام 1970 عندما تولى السلطان قابوس بن سعيد مقاليد الحكم جاء في خطابه الأول: «اننا نأمل ان يكون هذا اليوم فاتحة عهد جديد لمستقبل عظيم لنا جميعا. اننا نعاهدكم بأننا سنقوم بواجبنا تجاه شعب وطننا العزيز، كما أننا نأمل أن يقوم كل فرد منكم بواجبه لمساعدتنا على بناء المستقبل المزدهر السعيد المنشود لهذا الوطن..».

وفي 11 يناير من عام 2020 يوم أن تولى السلطان هيثم بن طارق شؤون الحكم قال في خطابه الأول: «إنَّ الأمانة المُلقاة على عاتقنا عظيمة والمسؤوليات جسيمة وينبغي لنا جميعًا أن نعمل من أجل رفعة هذا البلد وإعلاء شأنه وأن نسير قدمًا نحو الارتقاء به إلى حياة أفضل ولن يتأتى ذلك إلا بمُساندتكم وتعاونكم وتضافر جميع الجهود للوصول إلى هذه الغاية الوطنية العظمى وأن تقدموا كل ما يسهم في إثراء جهود التطور والتقدم والنماء...».

وما بين التاريخين جرى في النهر ماء كثير، واقترن المعنى بالمبنى في تشييد دولة المؤسسات.. وتجلى القاسم المشترك ضمن قواسم كثيرة: التوحد بين القيادة والشعب مشاركة وتعاون والتحام وبناء وأمل مبنى على واقع حي تطور وتقدم ونماء.. سردية عمانية  مبنية على مشاهدة عينية وفؤادية معا، وقاسمها المشترك هو الانسان بمكوناته الأصيلة، والمجتمع بتناسجه الدقيق، والدولة بثوابتها ومتغيراتها..

إنها الصيروة والسيروة للكينونة العمانية التي عمقتها مجددا رؤية السلطان هيثم بن طارق، والتي طالما أشار إليها المغفور له السلطان قابوس بن سعيد في خطابه عبر خمسين عاما.

 

السطر الثاني:

في هدوء وسكينة.. سلم السلطان قابوس رسالته، وهو الذي كان يقول «لست صاحب سلطة بل صاحب رسالة» وكل الشواهد والمشاهد تعلن بلا عناء أنه أدى الأمانة، وشيد مؤسسات الدولة، وثبَّت نقطة ارتكاز المجتمع والوطن والمواطن.

وفي سلاسة وانسيابية.. تسلم السلطان هيثم بن طارق مقاليد الحكم في عمان وجلس على الكرسي بكل جسامة دلالاته، وجسارة تداعياته، وهو الذي تشكل في بيت سياسي عريق ومارس السياسة عبر توليه أمانة وزارة الخارجية ووزارة التراث والثقافة وغير ذلك من مهام ذات حساسية، وكلها تمثل الخبرة والتجربة والحياة والحياة في التعامل مع شؤون الدولة والمجتمع والحكم.

لحظة راهنة، لا أقول إنها فارقة وفاصلة، لكنها متواصلة في التكوين العماني، ومتأصلة بالجذور الضاربة في الوجود ولا نمو بدون جذور. هنا تتجلى المفارقة بين ما هو كائن وراهن أمامنا وما يدور حوالينا في هذه المنطقة الملتهبة سياسيا واجتماعية وعسكريا، حتى صارت ( الشر... الأوسط) بدلا من (الشرق الأوسط).

 اقول إن المفارقة مثيرة للدهشة.. في هذه اللحظة العمانية المائزة في شؤون الحكم وانتقالية السلطة لسلطان هو سليل أعرق الأسر العربية الحاكمة (آل سعيد) التي تتجلي بدور إقليمي ومكانة دولة مشهود لها في العالمين، وهل في ذلك شك لذي حجر؟

السطر الثالث:

الرسالة التي أقرأها في كثافة جماليات هذه اللحظة العمانية في صيرورة انتقال الحكم تطرح أيضا أكثر من علامة استفهام:

متى نفيق في عالمنا العربي من هذه الأوهام، ونفرق بين الشخص والشخصية، وكفانا ما لاقيناه من الشخصنة؟

متى نتخلص من سياسة القطيع، لنشيد دولة المؤسسات، حقا وصدقا، وفعلا وليس قولا على الورق؟

يذهب هذا الحاكم فلا يختل التوازن، ويجيء هذا الحاكم فلا يدمر ما هو ثابت؟ لابد أن نبقي على الأصول والقواعد والقوائم حتى يظل القانون فوقنا أجمعين.. وليس تحتنا أجمعين.

السطر الرابع:

على أنه من الملاحظ ازاء الرؤى التي يتمثلها الفكر السياسي للدولة العمانية الحديثة، والشفافية التي ينفذ من أقطارها، وواقعية هذا الفكر الذي صاغ عمان الحديثة، وكثير من تجاربنا العربية تعجر عن تحقق التعادلية بين ان تكون الدولة معاصرة وعصرية في آن واحد.

تتلاشى تلك الصورة التي يرسمها المؤرخون والمنظرون، لكثير من القادة، تنأى بهم عن جنسيتهم البشرية والإنسانية، فيخلعون عليهم سمات تجعلهم أقرب إلى الأساطير، من خلال فكرة البطل المنقذ الذي جاء على موعد مع القدر من سجف الغيب، يوحد الأقطار فوقيا، ويملك ترسانة عسكرية تمكنه من إقامة ذلك التوحيد المرتقب ، لأنه ملهم من السماء.

وتتضخم المرآة المحدبة لتخفي صورة الشعب، فهو غير موجود طوال الوقت، غائب سلبي  كل دوره أن ينتظر البطل الذي يظهر في لحظة عسيرة باصطفاء ثور ي كالاصطفاء الإلهي للأنبياء ، ليقود شعبه نحو الانتصارات الكبرى، و قسوة هذا البطل ليست ضد الناس بل معهم، لأنهم يجهلون هويتهم الكامنة فيهم لذلك يصبح هدف السلطة هو تغيير الشعب ليكتشف ويعي دوره التاريخي ، ومن ناحية أخرى فإن هذا البطل فوق الناس، مختار، موجه ، صاحب واجب مقدس، اعتقادي، رسولي، مبعوث عناية قدرية، أما الشعب والناس، فهم يجهلون دورهم المرسوم في البروتوكولات، وهم في عفويتهم وطبيعتهم الاعتيادية واعتراضهم أحيانا، بحاجة الى الاصلاح بالوصاية والهيمنة الوقتية.

السطر السابع:

هذه الصورة المألوفة في الأدبيات السياسية العالمية لم يكن لها وجود منذ بداية نهضة عمان الحديثة، بل لم يكم لها وجود قط في التاريخ السياسي العماني ، القديم منه والمعاصر..

واسألوا التاريخ الحقيقي... وليس التاريخ الذي هو أكبر جهاز لتكييف "الهوى"!

السطر الأخير:

وسلام على عمان بما فيها ومن فيها

وسلام قولا من رب رحيم.

 

** صحفي وكاتب مصري.

تعليق عبر الفيس بوك