من تحديات التعليم العالي

الذكاء المتعدد ومواءمة سوق العمل

 

د. حيدر أحمد اللواتي

** أستاذ مشارك بجامعة السلطان قابوس

يُعد اختبار الذكاء العالمي "IQ test" أحد أهم الاختبارات التي تمَّ تطويرها في بدايات القرن الماضي والتي تهدف إلى معرفة مدى إمكانية تفوق الطالب في دراسته الأكاديمية، وقد نجح هذا الاختبار في تحديد ذلك نجاحاً ملحوظاً، لكن الملاحظة الأخرى والجديرة بالاهتمام ولربما يلاحظها الكثيرون أنَّ النجاح الأكاديمي غير مرتبط بنجاح الإنسان في حياته ما بعد التعليم العالي ونقصد بالتعليم العالي هنا التعليم الأكاديمي لمرحلة ما بعد الدبلوم العام كمرحلة البكالوريوس على سبيل المثال، فالكثير من المتفوقين دراسياً قد لا يُحققون طموحاتهم بعد تخرجهم بل ولربما يحدث العكس فنجد طالباً لم يكن متميزا أثناء دراسته الأكاديمية يتفوق ويُحقق نجاحا ملحوظا في حياته بعد إنهاء دراسته الأكاديمية.

وهذا ما وجه اهتمام الباحثين والأكاديميين إلى دراسة هذه الظاهرة وفي عام ١٩٨٣ طرح العالم الكبير هاورد جاردنر نظريته والتي تعرف بـ "نظرية الذكاء المتعدد" وذلك في كتاب له بعنوان " Frames of Mind: The Theory of Multiple Intelligences "(١)

ويعد هاورد جاردنر من كبار علماء النفس وكان يشغل منصف بروفيسور في جامعة هارفارد وتقاعد قبل مدة وجيزة وتعد نظريته حول الذكاء المُتعدد من أهم النظريات العلمية في مجال دراسات الذكاء حيث قام هذا العالم بتوسيع مفهوم الذكاء بحيث يستطيع أن يربط الذكاء بتحقيق النجاح في مختلف شؤون الحياة وصنف الذكاء إلى أصناف عديدة، وجاء من بعده عدد من العلماء وأضافوا أصنافا أخرى مُتعددة منها الذكاء الاجتماعي، الذكاء الفضائي، الذكاء الجسدي، الذكاء الإيقاعي الموسيقي، الذكاء الروحي والذكاء العاطفي، وتبين أن التعليم العالي في أغلبه يُركز على صنفين من الذكاء وهما ما يعرفان بالذكاء اللغوي والذكاء الرياضي بشكل أساسي وهما الصنفان اللذان يقوم اختبار الذكاء العالمي "IQ test" بالتركيز عليها بشكل كامل ولهذا فهناك ارتباط وثيق بينهما، ولكن الحياة العملية ما بعد التعليم العالي تحتاج إلى أصناف مُختلفة من الذكاء والوظائف المختلفة تحتاج أيضًا إلى أصناف مختلفة من الذكاء، والشخص الناجح هو الذي يجمع وينمي هذه الأصناف المُتعددة من الذكاء ويستغلها في حياته العملية بل إن التفوق في صنف أو صنفين من الذكاء وإهمال الأصناف الأخرى قد تكون له نتائج سلبية فإذا افترضنا أنَّ شخصًا ما يمتلك مستوى متوسطاً في أغلب أصناف الذكاء وآخر يتميز في صنف أو صنفين منهما فقط  فإن احتمالات تفوق الأول في حياته العملية يفوق بمراحل.

أدى توسيع مفهوم الذكاء إلى ردود فعل متباينة فالكثير أيد النظرية وتوقف عندها البعض الآخر(٢) لكن التعليم العالي الأكاديمي على وجه الخصوص واجه وما زال يواجه تحديًا كبيرًا، إذ إنَّ الدافع الأساسي للكثيرين للتوجه نحو التعليم العالي هو الربط الوثيق بين النجاح في تحقيق الأهداف المستقبلية والتعليم العالي والذي ركز ومنذ نشوئه بالشكل الحديث على تنمية مهارات الذكاء المرتبطة بالتحليل الرياضي والمنطقي بالإضافة إلى تنمية مهارات الذكاء اللغوي ولم يول التعليم العالي أهمية كبيرة لتنمية المهارات المرتبطة بالأنواع الأخرى من الذكاء كالذكاء العاطفي أو الذكاء الاجتماعي وهذا يعني أنَّ الارتباط الوثيق بين تحقيق الأهداف المستقبلية بنجاح والتعليم العالي لم يعد بالرابط الوثيق كما كان يعتقد سابقاً بل بدا أنه أضعف مما كان متوقعًا.

إنَّ الدافع الرئيسي للحكومات في صرف المبالغ الطائلة على التعليم العالي هو لخلق أجيال مهيأة للتحديات التي ستُواجه هذه الدول في المُستقبل ولكن عندما بدا هذا الرابط ضعيفاً بدأت الحكومات وسوق العمل بالضغط على الكليات والجامعات المسؤولة عن التعليم العالي لإيجاد حلول لهذا التحدي الكبير.

وبالفعل بدأت مؤسسات التعليم الحالي المتمثلة بالجامعات والكليات بإدخال أنشطة أكاديمية تسعى من ورائها لصقل مهارات الذكاء المختلفة من خلال طرح أنشطة صفية معينة كتعويد الطالب على الإلقاء والمناقشة وصقل مهارات التعلم الذاتي والتعلم بواسطة الأقران وكيفية الحصول على المعلومات وتقييم تلك المعلومات بالإضافة إلى المهارات العملية بل إن الكثير من مؤسسات التعليم العالي أدخلت التدريب الميداني كجزء أساسي مكمل للدراسة الأكاديمية إلا أنَّ مهارات الذكاء الرياضي واللغوي ما زالت تشكل الثقل الأكبر في عملية التقييم النهائي للطالب.

إنَّ محاولة تطوير مهارات الذكاء المُختلفة في مناهج التعليم العالي غيرت في هدف العملية التعليمية إذ لم تعد تقتصر على فهم الطالب للمادة العلمية بل تعدى ذلك إلى الأسلوب الذي يستخدمه المدرس في توصيل المعلومة العلمية فأصبح استخدام الأساليب التي تنمي الأصناف المختلفة من الذكاء لدى الطالب أهمية قصوى لا تقل عن أهمية فهم الطالب للمعلومة العلمية إن لم تفقها أهمية.

التحدي الآخر الذي يُواجه مؤسسات التعليم العالي هو مواءمة المخرجات مع سوق العمل، فبالإضافة إلى احتياج سوق العمل إلى أشخاص يمتلكون مهارات ذكاء متعددة وغير مقتصرة على الذكاء المرتبط بالتفوق في التحليل الرياضي والمنطقي أو التحليل اللغوي فإنَّ سوق العمل تأثر وبشكل كبير بسرعة التغيرات التي تحدث في الحياة اليومية وغدا سوق العمل بنفسه بحاجة إلى تخصصات جديدة ومُتغيرة بشكل سريع لم يعهد من قبل وهنا واجهت مؤسسات التعليم العالي وما زالت تواجه تحدياً من نوع آخر، إذ إنَّ دورة التعليم العالي لا تقل عن خمس سنوات وربما تصل إلى عشر سنوات، إذ إنَّ المعتاد أن درجة البكالوريوس مثلاً تحتاج من أربع إلى خمس سنوات ومن ثم نحتاج من ثلاث إلى خمس سنوات أخرى لندرس أثر التخصص وأهميته في سوق العمل، ولأنَّ سوق العمل غدا متجددا بشكل سريع -وسيزداد سرعة مع الزمن- فإن دورة التعليم العالي تعد بطيئة للغاية ولا تتماشى مع سرعة التغيرات التي يشهدها أو سيشهدها سوق العمل.

إنَّ العائق الأكبر الذي يواجه مؤسسات التعليم العالي هو عدم وجود مرونة كافية في التعليم وصعوبة التغيير المستمر في التخصصات وصعوبة التخلص من تخصصات سابقة لم يعد لها دور هام وكبير في سوق العمل.

وقد قام عدد من الجامعات ببعض التغييرات في التخصصات التي تقوم بتوفيرها وذلك عبر ما يعرف بالبرامج البينية مثل برنامج بكالوريوس في علوم الحاسوب والإدراك وهو تخصص توفره جامعةMIT الأمريكية العريقة ويدمج بين علوم وهندسة الحاسوب وبين العلوم البيولوجية المرتبطة بالإدراك بل إن هذه الجامعة افتتحت قسماً خاصاً بالعلوم البيولوجية المرتبطة بالدماغ والإدراك، وتوفر الجامعة أيضًا تخصصات أخرى شبيهة مثل بكالوريوس في الدراسات الإنسانية والهندسة، بينما نلاحظ أن جامعة كامبريدج العريقة توفر تخصصاً مفردًا يعرف بالعلوم الأساسية الثلاثية يجمع بين ثلاث تخصصات كالبيولوجيا والكيمياء والفيزياء مع التركيز على أحدهم خلال السنتين الأخيرتين وبالمقابل فإن جامعة كامبريدج لا توفر تخصصات مفردة في العلوم الأساسية كشهادة بكالوريوس في الكيمياء أو الفيزياء أو الأحياء على سبيل المثال.

إن توفير تخصصات توائم سوق العمل قد يكون ممكنًا حالياً ولكن الأمر سيزداد صعوبة مع مرور الوقت ولابد من إيجاد حلول مبتكرة وخارج الصندوق.

إننا نرى أن الحل ربما يكمن في العمل بجد على تقليل سنوات التعليم العالي إلى سنتين كحد أقصى (٣) وذلك حتى يتماشى مع سرعة التغيرات الحاصلة في سوق العمل، لأن تقصير دورة التعليم العالي سيفتح مجالا جيدا لدراسة التخصصات التي يتم توفيرها وتقييمها إلا أن هذا التوجه يحتاج إلى إعادة النظر في المناهج والخطط الموضوعة، كتكثيف مدة الدراسة وتقوية المناهج الدراسية لطلبة الدبلوم العام بحيث تتناسق مع التعليم العالي وتصبح جزء أساسيًا منه وقاعدة يبنى عليها التعليم العالي.

وهناك من يرى أننا نحتاج إلى توسع عرضي في المعرفة بدل التوسع الرأسي فالمبدعين ليسوا دائمًا هم أولئك الذين يمتلكون عمقاً في المعلومة بل هم من يمتلكون أفقًا معرفياً واسعا (٤) وهذا لا يتسنى إلا بالتوسع في مدارك الإنسان وخوضه لتجارب عديدة، ولهذا فلا يُمكن أن نختزل الحياة برمتها في التعليم العالي، وعلى أجيال المستقبل أن تعي جيداً أن التعليم العالي هو جزء هام من التجربة ويساهم في توسيع مدارك الإنسان ولكن عليه أن يخوض تجارب مختلفة ومتعددة ويطلع على تجارب الآخرين ويصقل شخصيته في المساهمة في الأنشطة الاجتماعية والجامعية وينشط بشكل إيجابي في وسائل التواصل الاجتماعي ويبدع في إيجاد وسيلة توفر له دخلاً ولو كان بسيطاً، كل ذلك سيخلق منه شخصية متكاملة تعزز فرصه للنجاح في حياته وجعله متألقا ومميزا.   

ولربما يشهد التعليم العالي في المستقبل توجهاً آخر أشد برغماتية يتمثل في توفير المواد المختلفة وترك اختيار المواد التي يرغب بها للطالب ليكون له تخصصه الذي يرغب فيه، فمثلا يرغب الطالب في عمل متجر إلكتروني لبيع الأدوات المرتبطة بالسلامة في المنازل وبيئات العمل المختلفة، فيحدد لنفسه أن يقوم بدراسة عدد من مواد الحاسوب المرتبطة بتطوير مواقع الإنترنت المتخصصة وعددا من مواد التسويق بالإضافة إلى دراسة بعض المواد المرتبطة بالسلامة في المنزل وبيئات العمل المختلفة، بينما نجد طالباً آخر يرغب في بيع مواد البناء من خلال متجر إلكتروني فنجده قد يشترك مع الطالب الأول في مواد الحاسوب والتسويق ولكنه سيفضل أن يأخذ مواد مرتبطة بعلوم المواد ولربما يضيف لها مواد هندسية ليفهم أكثر في عملية البناء، وبهذه الطريقة لن تحتاج مؤسسات التعليم العالي إلى تغيير التخصصات بين فينة وأخرى وإنما ستحتاج إلى طرح مواد جديدة وإلغاء مواد أخرى وهذا أمر ليس بصعوبة طرح تخصصات جديدة بالكامل، بالإضافة إلى أنها ستثري سوق العمل بتخصصات متباينة ومتنوعة فبدل أن تكون الدفعة بكاملها تخرجت بنفس التخصص سنجد أن هناك تنوعا واختلافا ثريا بين الخريجين.

إن مواءمة مخرجات التعليم مع سوق العمل تحتاج أيضًا إلى تطوير مستمر لآليات التوظيف، فليس صحيحًا أن يتم ربط مسمى شهادة التخصص بالوظيفة بل لابد من دراسة متأنية ودقيقة للمواد التي درسها الطالب وتقييمها على أساس المهام المخصصة للوظيفة، وبذلك نضمن الاختيار الصحيح والمناسب.

إنَّ تحديات المستقبل المنظور كبيرة ومتشعبة ويشكل التعليم العالي حجر الزاوية لمواجهتها فهو الرافد الأساسي للعقول البشرية التي عليها عبء مواجهة التغيرات السريعة في متطلبات الحياة بمختلف اتجاهاتها ولذا لابد من ابتكار آليات ونظم تعليم تتميز بمرونة كبيرة تسمح بعمل تغييرات في نظم المؤسسات التعليمية - بل وفي نظم مؤسسات الدول- بشكل سريع وسلس ولكنها في الوقت نفسه تتميز بالدقة والضبط وهو أمر يحتاج إلى عمل شاق ومخلص وخبرات واعية وكبيرة.

 

المصادر

(١) Frames of Mind: The Theory of Multiple Intelligences by Howard Gardner

(٢) Intelligence Reframed by Howard Gardner

(٣) Accelerated Learning for the 21st Century by Colin Rose and Malcolm J. Nicholl

(٤) Range: Why Generalists Triumph in a Specialized World by David Epstein

تعليق عبر الفيس بوك